التعامل مع الخلاف الفقهي.. إدارة وحضارة
التعامل مع الخلاف الفقهي.. إدارة وحضارة
كتب/ د.مصطفى الاقفهصي
نحن في حاجة مُلحَّة إلى إعادة بناء طُرُق التعامل مع التراث الإسلامي، وتطوير آليات النظر في النص الفقهي على ضوء المستجدات العصرية، تحصن من التحلل والانفلات، وتصون من التحجر والجمود.
والمذاهب الفقهية: هي مدارس علمية متعددة، قام أصحابها بدراسة المشكلات التي واجهتهم وتسللت إلى مجتمعهم؛ في مختلف الاتجاهات: حياتيًّا ودينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا.. فقاموا بواجب وقتهم بما يناسب متطلبات عصرهم.
ولذلك يُعد النتاج الفقهي كاشفًا عن هذه العصور بكل جوانبها من جهة، ومن جهة أخرى: يمثل حقلًا واسعًا للدراسة والنظر وبناء العقول العلمي وتكوين الملكات الفقهية.
وهو ما جعل العلماء يفكرون فيما أُختلف فيه من هذا النتاج: هل هو نعمة إلهية ينبغي الاستفادة منها على أعظم الوجوه وأكملها؟
أم أنه نقمة ومرض يجب القضاء عليه واقتلاع جذوره؟
بما أدى بالعلماء أن يحولوا دراسة هذا الخلاف بأسلوبٍ حضاري رشيد، إلى برامج عملٍ آلية، جعلت من هذا التنوع منهجًا في تكوين النسق العلمي المنضبط، والمنهج الفكري المتسق.
ولذلك رأيناهم يديرون الخلاف، ويؤلفون فيه، وأول من طرق هذا الباب من الفقهاء هو الإمام الأعظم أبو حنيفة رحمه الله في كتابه “اختلاف الصحابة”، وكذلك الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه “اختلاف الفقهاء”، وألف العلامة أبو العلاء الأُسمَندي الحنفي “طريقة الخلاف بين الأئمة الأسلاف”، وألف الإمام ابن عبد البر المالكي “الإنصاف”، وألف القاضي عبد الوهاب المالكي “الإشراف على نكت الخلاف، وألف الإمام البيهقي الشافعي “الخلافيات بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة، وألف القاضي أبو يعلى الحنبلي “التعليقة أو التعليق الكبير”، وألف الإمام المرداوي “الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف”.
وقد تغيَّا أصحاب هذه المؤلفات بهذه الإدارة أمرين:
الأول: المنافحة عن مذاهبهم الفقهية، وبيان موارد أحكامها، ومستنداتها، في مقابل المذاهب الأخرى.
الثاني: استخلاص ثمرة هذا الخلاف بطريقة حضارية تقوم على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين.
والأصل في المذاهب الفقهية الإسلامية التكامل بينها في فهم هذا النص للوصول إلى مراد الله تعالى فيها.
ذلك أن الله تعالى جعل أدلة الشرع الشريف على قسمين:
القسم الأول: الأدلة القطعية، وهي التي اتفق علماء المسلمين على دلالتها، ولم يختلفوا فيها، وهي يشكل ما يسمَّى “بهوية الإسلام”، أو “المعلوم من الدين بالضرورة”.
القسم الثاني: الأدلة الظنية، وهي محل الاجتهاد، وهي التي اختلف فيها المسلمون، وهذا القسم هو الأكبر في مسائل الشريعة.
والقرآن الكريم: من حيث الثبوت.. كله قطعي الثبوت (رسمه وأحكامه وتلاوته، وحركاته وسكناته.. وكل شيء) فهو قطعي الثبوت، ورد إلينا عن طريق التواتر، جيلا من بعد جيل.
أما من حيث الدلالة: فمنه ما هو قطعي الدلالة، ومنه ما هو ظني الدلالة.
والسنة النبوية المطهرة: منها ما هو قطعي (ثبوتًا ودلالة)، ومنها ما هو ظني (ثبوتًا ودلالة).
وما يسوغ فيه الاجتهاد من هذه الأقسام هو:
ما كان ظنيَّ الدلالة (قرآنا أو سنة)، وما كان ظنيَّ الثبوت (السنة.. وهي الأحاديث الآحاد)، بالإضافة إلى المسائل التي سكت عنها الشرع، والمسائل المستحدثة والمستجدة، وكما قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام: يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم..
كل هذا يُمثِّلُ درجة عظيمة في سُلَّم الوصول إلى طريقة إدارة الخلاف الفقهي إدارة حضاريَّة، وبيان الأسباب التي جعلت أحكام الفقهاء تتفاوت وتتغير، فنجد مثلًا إمامًا يقول في مسألة ما بالجواز، وآخر يقول فيها بالكراهة، وثالثًا يقول بالحُرمة.. وهكذا، مع أنَّ النص الشرعي واحدٌ في جميعها.
وهذه الأسباب في مجملها ترجع إلى ثلاثة أمور:
الأول: طبيعة النص ذاته الذي يحمل أكثر من وجه.
الثاني: التنوع البشري في قبول الأفكار.
الثالث: التنوع المكاني والزماني.
وهذه الثلاثة هي مقصودٌ شرعيٌّ مؤسَّس، ومرادٌ إلهي مُقدَّس، غرضه التكامل والتعارف، لا التصارع والتناكر.
إذا عرفنا ذلك: عرفنا أنَّ كل ما يثار من غبار في الوقت الحاضر حول الأحكام الشرعية وتراث الأئمة في الفتاوى، إنَّما يرجع في الحقيقة إلى سوء إدارة الخلاف الفقهي، وتحويل الفروع الفقهية التي ساغ فيها الاجتهاد، إلى أُصول دينيَّة ثابتة، ينبني عليه الإيمان والكفر، أو التبديع والتفسيق وما إلى ذلك..
وكيفية إدارة الخلاف الفقهي، منها يتعلق بالجوانب الأخلاقية؛ من حيث حسن الظن بالعلماء، والأدب مع المخالف وحسن محاورته، وعدم الإنكار عليه وتحقير ما ذهب إليه.
والمخالف هو من أهل العلم والفضل، وأنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وأنهم مصابيح الدجى، ومنارات الهدى، وهم من يدلون الناس على الخير وفعل الطاعات وصحيح العبادات، ولذلك قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾.
وكما قال الشاعر:
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ … على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه … والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
ونحنُ في الجملة مأمورون باتباع العلماء والرجوع إليهم؛ كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ولذلك قيل لسعيد بن جبير رحمه الله: “ما علامة الساعة وهلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم”.
وكان الإمام الحسن البصري رحمه الله يقول: موت العالم ثُلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار”.
الأرض تحيى إذا ما عاش عالمُها … متى يمت عالمُ فيها يمت طرفُ
كالأرض تحيى إذا ما الغيث حلَّ بها … وإن أبى عادَ في أكنافها التلفُ
ومن الإدارة ما يتعلق بالجوانب الإجرائية: والتي تتمثَّل في مراعاة الخلاف الفقهي، والنظر إليه بعين الاعتبار عند استنباط المسائل الخلافية وتطبيقها والإفتاء بها، وقد أصَّل فقهاء المذاهب المتبوعة القول بمراعاة الخلاف، وجعلوه قاعدة فقهية معتمدة، وعدَّها السادة المالكية من أصول المذهب وقواعده التي يستند إليها في تعامله مع مسائل الخلاف، حتى عدها الإمام القبّاب من محاسن مذهب الإمام مالك.
وقد نصَّ على هذه القاعدة من غير المالكية: كثير من فقهاء المذاهب المتبوعة ومجتهديها، وأعملوها -بمعناها اللغوي الواسع- في المسائل الخلافية تفريعًا وتأصيلًا، وتطبيقًا وتنزيلًا.
فنخلص من ذلك إلى أنَّ التعامل مع الخلاف الفقهي -من جملة مورث الأمة- يتطلب إدارة وحضارة:
إدارة: في احترام الرأي والرأي المخالف، ومعرفة أن لكل رأي مستنده الشرعي، وأنه مبنيٌّ عن اجتهاد ونظر.
وحضارة: في الاستفادة من هذا الخلاف في التيسير على الخلق وحمل تصرفات العوام منهم على ما صح من مذاهب المجتهدين.