الشهادة في المحاكمات الجنائية بين الإثبات والنفي والخبرة وحدود المناورة القانونية

سلسلة نهر الأمل للتوعية بالقانون الجنائي
مصطلح اليوم
(الشهادة في المحاكمات الجنائية بين الإثبات والنفي والخبرة وحدود المناورة القانونية)
بقلم: د. محمد رمضان عيد محمود جمعه غريب
أستاذ القانون الجنائي

تُعد الشهادة من أقدم وأهم وسائل الإثبات في النظامين المدني والجنائي. ورغم قدمها، مازالت تلعب دوراً محورياً في إثبات الوقائع أو نفيها، خصوصاً في القضايا الجنائية. ومع تطور أساليب الدفاع وتعقيد البنية القانونية، أصبحت الحاجة مُلحة لإعادة النظر في دور الشهادة، ليس فقط كمصدر إثبات، بل كأداة تكتيكية يمكن توظيفها، سواء من خلال الشهود التقليديين أو عبر ما يسمى بـ “خلق الموقف المشهود عليه” كوسيلة لحماية الحقوق.
أنواع الشهود في المحاكمات الجنائية:
ينقسم الشهود إلى ثلاث فئات رئيسية، لكل منها طابعها ووظيفتها:
1. شهود الإثبات:
يُستمع إليهم بواسطة النيابة العامة لتأكيد الإتهام، وتُدرج شهاداتهم ضمن أدلة الثبوت.
2. شهود النفي:
يطلب الدفاع الاستماع إليهم لنفي التهمة أو التشكيك في رواية شهود الإثبات.
3. شهود الخبرة:
يُستعان بهم لتفسير مسائل فنية لا تدخل ضمن الإدراك العادي للقاضي، كخبراء الطب الشرعي، وخبراء التزوير، والمحاسبين الفنيين.
ضوابط الدفاع عند مناقشة الشهود:
يلتزم الدفاع خلال جلسات الشهادة بعدة ضوابط لضمان سير العدالة وحياد الجلسة:
– توجيه الأسئلة من خلال المحكمة أو بإذنها.
– عدم تكرار الأسئلة إلا إذا كانت الإجابة غير واضحة.
– استخدام أدوات الاستفهام: متى، أين، كيف، لماذا، ما، من، ماذا.
– الامتناع عن مقاطعة الشاهد أو التأثير عليه بأي صورة.
– الاستعداد المسبق وتدوين الشهادة بدقة.
استراتيجيات الدفاع في استدعاء الشهود:
– إذا كانت شهادة شاهد الإثبات ضعيفة أو متناقضة، يُفضل أحياناً عدم استدعائه مرة أخرى حتى لا يُمنح فرصة لتعديل أقواله.
– في حالة شهود النفي، لا يجب تلقينهم مسبقاً، بل يُترك لهم الإدلاء بشهاداتهم بحريّة، مع جاهزية الدفاع لطرح أسئلة تكشف التناقض أو تعزز مصداقية الشهادة.
خلق الموقف المشهود عليه: وسيلة استباقية للإثبات:
في حالات غياب الشهود الطبيعيين، يمكن اللجوء إلى ما يسمى بـ “خلق الشهادة الودية”، مثل:
– تنظيم لقاء ودي بحضور شهود محايدين، يُقر فيه الطرف الآخر بما عليه من التزام.
– توثيق الواقعة برسائل مكتوبة، أو اتفاقات عرفية، أو تسجيلات – متى كانت مشروعة – لتكون دليلاً لاحقاً.
تعد هذه الوسيلة بسيطة لكنها فعالة لحماية الحقوق عند غياب المستندات الرسمية أو الشهادة المباشرة.
في الختام:
الشهادة في المحاكمات الجنائية ليست مجرد وسيلة لإثبات واقعة، بل هي ميدان للمناورة القانونية المشروعة. وإدارتها بحكمة – سواء من خلال مناقشة الشهود أو خلق مواقف يمكن الاعتماد عليها لاحقاً – تُعد من أدوات الدفاع الحاسمة.