د. مصطفى الأقفهصي يكتب.. معنى قول الصحابة ليته سكت
معنى قول الصحابة ليته سكت
قول الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لَيْتَهُ سَكَتَ” ورد في الحديث الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ -ثَلَاثًا-»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ»، قال: فما زال يكررها حتى قلنا: “ليته سكت”.
فهل يفهم من قول الصحابة رضي الله عنهم “ليته سكت” أنهم كانوا يملُّون من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويسأمون من كلامه؟
النبي صلى الله عليه وآله وسلم “أعطي جوامع الكلم”، وفي رواية: “مفاتيح الكلم”، أي أنه أوتي ملكة يقدر بها على إيجاز اللفظ، مع سعة المعنى، بنظم لطيف لا تعقيد فيه يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار الذهن في فهمه، أي أنه أعطي جوامع الكلم بخواتمه كما قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذهن إلا ومعناها أسبق إليه؛ كما يقول الإمام زين الدين المناوي، وقد شبه ذلك بمفاتيح الخزائن التي هي آلة للوصول إلى مخزونات متكاثرة.
وهو صلى الله عليه وآله وسلم إذا تكلم تكلم لحكمة، وإذا سكت سكت لحكمة، فلا يخرج من كلامه إلَّا حقًّا، ولا يتكلم إلَّا صدقًا.
والصحابة الكرام هم أكثر الناس إجلالًا واحترامًا وتأدُّبًا ومحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأشدهم تشوُّفًا وتشوُّقًا إلى سماع حديثه؛ فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: “ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه” صحيح مسلم.
وقد وصف هذه الحالة من التقدير والتبجيل سيدنا عروة بن مسعود رضي الله عنه، حينما جاء يفاوض النبي في صلح الحديبية؛ فجعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، وتعاملهم مع الجناب النبوي المفخَّم، فلما رجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له (صحيح البخاري)
فلأنهم علمُوا أَن تكرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذَلِك يُوجب تَعْظِيم هَذَا الذَّنب، وَقد عرفُوا أَن هَذِه الذلة تقع بِبَعْض الْمُسلمين، فأحبوا تيسير الْأَمر
فقولهم (ليته سكت): إنَّما كان شفقةً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكراهيةً لما يزعجه، وخشية أن يجري على لسانه ما يوجب نزول البلاء عليهم، مع ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه والمحبة له والشفقة عليه:
قال الإمام ابن الجوزي [وَأما قَوْله: “حَتَّى قُلْنَا ليته سكت”، فلأنهم علمُوا أَن تكراره لذَلِك يُوجب تَعْظِيم هَذَا الذَّنب، وَقد عرفُوا أَن هَذِه الذلة تقع بِبَعْض الْمُسلمين، فأحبوا تيسير الْأَمر] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ليته سكت: أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه، وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والمحبة له والشفقة عليه] اهـ.
وهو قول الإمام البدر العيني: [قَوْله: ليته سكت.. تمنوا سُكُوته، وَكَلَامه لَا يمل مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.. أَرَادوا استراحته] اهـ.
وقال العلامة الصديقي [(ليته سكت) أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه وخشية أن يجري على لسانه ما يوجب نزول البلاء عليهم. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه والمحبة له والشفقة عليه] اهـ.
والمطالع للبيئة العلمية التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القائد والمُدرِّب والمُعلِّم، وينظر إلى تعامل الصحابة الكرام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تلقِّيًا واستفهامًا، وتعلُّمًا واستلهامًا، يجد أنَّ هذا الجو العلمي رسَّخ لمنهجٍ متوازنٍ متضافر، لا تناقض فيه ولا تنافر، وَازن فيها الصحابة الأجلاء بين التوقير والأدب العالي، وبين ما تقتضيه الحوزة العلمية من المناقشات والمحاورات.
فكانوا يسألونه فيما أشكل عليهم من قولٍ أو فعلٍ، ويناقشونه ويحاورونه، فيما أسماه العلماء بـ”المراجعات”، فيسألونه بهدف التفهم والاقتناع، مع علوِّ التأدب مع النبي وتوقيره وإجلاله.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: “نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله، ونحن نسمع” روا مسلم.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: “وقوله (العاقل) لكونه أعرف بكيفية السؤال وآدابه، والمهم منه، وحسن المراجعة، فإن هذه أسباب عظم الانتفاع بالجواب”.
المراجع:
– “فتح الباري” (5/263، ط. دار المعرفة).
– “كشف المشكل” (2/13، ط. دار الوطن).
– “دليل الفالحين” (3/180، ط. دار المعرفة).
– “عمدة القاري” (13/218، ط. دار إحياء التراث العربي).