توعية وإرشاد

اعطني وعيك… وأعطيك بيتزا مجاناً

بقلم: د. محمد علي – استشاري التحول الرقمي والأمن السيبراني

اعطني وعيك… وأعطيك بيتزا مجاناً
بقلم: د. محمد علي – استشاري التحول الرقمي والأمن السيبراني

 

الو: ايوة يا افندم تحب تطلب اية؟

عاوز اطلب بيتزا مشكل جبن وبطاطس مقرمشة ومشروب غازي

ايوة ياافندم : تحت امرك،  عاوزها حجم ايه لفرد او فردين.

لا لا فرد واحد كفاية، اصل انا قاعد لوحدي 

تمام يا افندم طلب حضرتك وبصوت ودود يسألك: اسم حضرتك؟ عنوانك؟ رقم تليفونك؟ متى ستكون في البيت؟

وأنت بكل أريحية تجيب وابتسامتك تغطي وجهك دون أن تدرك أنك للتو منحت شخصاً غريباً لا تعرفه ولا تربطك به صله ولا تعرف عنه حتى اسمه الحقيقي او صورته كل ما يحتاجه ليعرف أين تعيش وهل انت وحدك، متى تكون موجود، وكيف يصل إليك ورقم هاتفك، وحتى طعامك المفضل.

 وتنهي المكالمة مؤكداً عليه بكل حزم زيادة الجبن وان تكون البيتزا اسبايسي والبطاطس ساخنة للتاكد من جودتها، وتهدد وتتوعد انه اذا تاخر الاوردر او جائت البيتزا باردة فانك لن تتسلم الطلب.

 هذا فقط ما يعكر صفوك وتتمنى الا يحدث!!!، الا يتاخر الطلب وان ياتي ساخناً  كما تحب ان تتذوقه، وقد قمت للتو بجريمه بحق نفسك حين شاركته كافة معلوماتك الشخصية لتطبيق او شخص دون ان تدري او تعرف عنه شئ، وباتت خصوصيتك مباحه على المشاع كل هذا بثمن بيتزا.

التكنولوجيا الحاكم الفعلي

في زمنٍ صارت فيه التكنولوجيا الحاكم الفعلي لكل تفاصيل حياتنا، لم يعد بإمكاننا الانفصال عنها لحظة واحدة، من الهاتف الذي لا يغادر أيدينا وهو يملكك ويسلب وعيك ويعلم عنك اكثر مما تعلم عن نفسك، إلى التنقل اليومي بين فيسبوك وتويتر وإنستجرام وغيرهم من مواقع التواصل الاجتماعي، مروراً بالأنظمة الذكية التي تدير حياتنا من خلف الكواليس من طلب بيتزا من مطعم الحيّ، الى تطبيقات مواصلات ذكية، إلى شراء الدواء من الصيدلية، إلى إدارة حساباتك البنكية أو الاشتراك في خدمات الاتصالات… كل نقرة تسجل أثراً وكل رابط عين تراقبك، وكل معلومة تُخزن في مكانٍ ما يتم تحليلها اما لك او عليك، تستخدم تلك المعلومات لاحقاً لتحقيق أهداف التطبيق الجيده لتسهيل حياتنا وتقوم بدورها الحقيقي مثل تطبيقاً مصرفياً حساساً ومؤمن بشكل صحيح واحترافي وفقاً لاهداف التطبيق ومعايير التامين الدولية من قبل مؤسسة قانونية ومشروعه في الدولة، أو مجرد وسيلة او تطبيق لطلب وجبة سريعة او متجر الكتروني لا نعلم عنه الكثير…… كل شيء صار في علامنا اليوم يدور حول الموبيل الذي تحمله في يدك وهو يملكك ويسلب وعيك ويعلم عنك اكثر مما تعلم عن نفسك،كل تلك البيانات بكافة اشكالها متاحه ومخزنه بشكل او باخر في مكان ما لا تعلم عنه شئ ولا تدري اية صلاحيات لادارة تلك البيانات قد منحت او من هم المصرح لهم بذلك.

 

 

لم تعد بياناتك الشخصية حكراً عليك

لذا فالسؤال الذي يجب أن نطرحه بجرأة: هل نحن نملك وعياً تكنولوجياً حقيقياً؟

اذا قام كل فرد منا الان بتوجيه السؤال لنفسه، هل قام بالتحدث مع احد من المطاعم او خدمة العملاء على الهاتف خلال هذا الشهر واعطاه بياناته؟!، او قام بذلك حتى من خلال تطبيق على الموبيل او الانترنت، فاعتقد ان الاجابة ستكون بنعم، واننا جميعاً قمنا بهذا الامر بشكل او باخر.

فالتجربة والواقع يقولون بصوت عالي ومؤكد اننا لا نملك وعياً تكنولوجياً حقيقياً للتعامل مع التطبيقات والتكنولوجيا، و اننا غير قادرين على ان نتخذ القرار الذي يؤمن بياناتنا بشكل صحيح في الوقت الفعلي.
فنحن اليوم من أكثر شعوب العالم استخداماً واستهلاكاً للتكنولوجيا، لكننا في الوقت نفسه من أقل الشعوب فهماً ووعياً بمخاطرها لتجنبها،  نحن نستهلك التكنولوجيا بمهارة وحرفية، لكننا لا نصنعها، ولا نمتلك الوعي الكافي لتقدير مخاطرها أو استثمار فرصها.

وهنا تكمن المفارقة الخطيرة  أن تكون مستخدماً لما لا تعي مخاطره، فتتحول من سيداً للتكنولوجيا إلى تابع لها، وتتحول هي من سلاح بيدك الى سلاح خطير موجه الي حاملها وقد تفسد عليه حياته دون ان ينتبه او يدري مدى خطر ذلك الى ان يقع.

 

أهمية الوعى التكنولوجي

لهذا، بات من الضروري أن نعيد بناء وعينا التكنولوجي لا باعتباره وجاهه اجتماعية او ترف معرفي، بل ضرورة وطنية وشخصية لحماية أنفسنا من الاحتيال والخسارة.

فالوعي التقني اليوم لا يقل أهمية عن التعليم أو الصحة أو الأمن… إنه خط الدفاع الأول في عصر تدار فيه الحروب والصفقات وحتى العلاقات بـضغطة زر

اؤؤكد كما قلت سابقاً اننا نعيش اليوم في عالم تتحكم فيه التكنولوجيا في معظم قراراتنا، فهاتفنا الذكي يعرفنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا، تطبيقاتنا تحفظ أسرارنا، وتبيعها أحياناً دون أن نعلم لمن يدفع الثمن.
بطاقاتنا البنكية، مواقعنا، صورنا، ذكرياتنا حتى الاطعمة التي نفضلها… كلها بيانات يتم تخزينها ويتم تحليلها وتستخدم عند الحاجة، ومع ذلك، نحن في عالمنا العربي نعيش حالة اللاوعي التكنولوجي.
نستهلك التكنولوجيا بشغف، كمن يأكل الحلوى دون أن يدرك أنها ستصيبه في نهاية الامر بامراض لا يقوى على تحملها.

نضغط موافق دون قراءة، نشارك صور أطفالنا ومواقعنا بلا تردد، ونقول ما المانع؟!. انه تطبيق وصناع التكنولوجيا هم اطهار ومنزهون وملائكة متحضرون وما قيمة تلك الصورة او هذا المنشور لهم ….

لكن الحقيقة أن كل موافقة هي توقيع على ورقة بيضاء يفعل بها الشخص الاخر ما يحلو له بناء علي هذا التوقيع منك بكامل ارادتك بسبب عدم وعيك لما تفعله، كل صورة ترفع لها بالغ الاثر في تحليل شخصيتك تسهل بها وظيفة من يراقبك وينتظر اللحظة الحاسمة،كل نقرة على تطبيق مجاني… ثمنها أنت وقد يمتد اثرها الى احد احبائك.

ما هو الوعي التكنولوجي؟

ليس المقصود بالوعي التكنولوجي أن تعرف كيف تفتح تطبيقاً او كيف تقوم بتشغيله أو ترد على رسالة واتساب. الوعي التكنولوجي هو أن تفكر قبل أن تضغط، أن تتساءل قبل أن تصدق، أن تدرك أن التكنولوجيا ليست لعبة او مجرد أدوات، بل ساحة حرب ناعمة تدار فيها المعارك بلا دماء، فقط عبر الشاشات ومن خلال منظومة فكرية وثقافية واقتصادية تتحكم في العقول قبل الأجهزة. قد تستغلها الدول كاستعمار بشكل جديد ولكن استعمار للعقول قبل الاراضي. أنها قادرة على أن تشكل تفكيرك، ذوقك، حتى قناعاتك السياسية والدينية ، قد تشكل استعمار ثقافي لمحو الهوية ببطء شديد الى ان تتغرب تلك الشعوب المستهلكه نتيجة عدم وعيها عن ثقافتها وهويتها بعد عدة اجيال من الان.

الوعي التكنولوجي هو أن تفهم كيف تعمل التكنولوجيا، وفي ماذا يتم استخدام بياناتك قبل مشاركتها، وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تؤثر في وعيك وسلوكك.

هل فكرت يوماً؟! وانت تقوم بطلب اوردر للطعام وتزود الذي يقف على الخط الاخر من المكامله ويسالك بكل وضوح اسمك ، رقم هاتفك ، عنوانك بشكل تفصيلي او موقعك ان كان متاح ، متى ستتواجد في هذا الموقع تحديداً وهو ياخذ كل بياناتك بشكل تفصيلي بكل بساطة.  وانت تنهي تلك المكاملة الساذجة بقولك لا تنسى ان يكون الساندوتش اسبيسي والبطاطس المقلية مقرمشة وساخنه. ان كانت البيانات ستصل الى شخص اخر او ان الذي يحدثك ليس بمطعم او خدمة عملاء حقيقي، هل ادركت حجم الورطة الان.

  

ما هذا العبث ؟ ان اراد احد ان ينفذ جريمة كاملة فاكد اجزم انه لن يحتاج الى اكثر من تلك المعلومات ليفتك بهذا الشخص الذي حدد له كل شئ، فاصبح كتاب مفتوح ومتاح له في موقع محدد بتوقيتات شديدة الدقة باسم وعنوان ورقم هاتف وقد تتطلب بعض التطبيقات الرقم القومي وفصيلة الدم والامراض التي تعاني منها ومما تخاف لتصبح مهمة هذا المجرم كنزه في حديقة ولا يتطلب الامر منه حتى نقطة عرق واحدة.

اتسأل ما هذة السذاجة وكيف يقوم احد على اتاحة نفسه بهذا الشكل المبالغ فيه دون أن يدري ان كان هناك تأمين لتك البيانات بعمليات منظمة وتحت مؤسسات احترافية تكفل تأمين ميثاقي لتلك البيانات ، فارى هذا الانسان البائس المغيب فاقد الوعي وهو يوقع على صفحة بيضاء لاتاحة خصوصيته بكل الاشكال.

فنجد من يمنح الإذن للتطبيق على هاتفه ليصل إلى كل محتوياته، فقط لأنه يريد فلتراً جديداً للصور أو أغنية ترند لتحميلها.

لذا لابد ان نتربى من البداية على  كيف نفكر بشكل صحيح، وان نستهلك بشكل واعي فيتم ذلك من البداية من المدرسة والجامعه والاعلام،  فنربي جيلاً من أبناءنا يفكرون قبل ان ينقرون، كل واحد فيهم… يسأل نفسه: هل هذه المعلومة تستحق أن أشاركها؟ هل هذا التطبيق آمن؟ هل البيتزا المجانية تستحق أن أبيع خصوصيتي مقابلها؟

فلا يصبح اي منا فريسة سهلة لرسالة احتيال أو رابط مجهول،  فلا يمنح الإذن لاي تطبيق ليصل إلى كل محتويات هاتفه والا يشارك بياناته وصوره لمجرد انه يسعد بمشاركة هذا الامر مع اصحابه على المواقع المختلفة، فيظهر لنا جيلاً يؤتمن على البيانات منذ الصغر سواء شخصية او مؤسسية بسبب الوعي الذي تربى عليه وعرف قيمة البيانات وقيمة المعلومة.

في الغرب… يتم تدريس التكنولوجيا كلغة حياة، فالمستخدم هناك يعرف أن بياناته ملك له، ويعرف حقوقه الرقمية، ويفهم كيف يحاسب من يعتدي على خصوصيته، فالفرق بيننا وبينهم ليس في الذكاء، بل في الوعي.

 

الوعي التكنولوجي… درع المستقبل

الوعي التكنولوجي ليس ترفاً، إنه خط الدفاع الأول عن نفسك وأسرتك ووطنك، فالشخص الواعي لا يتم خداعه بسهولة. والمؤسسة الواعية تعرف كيف تحمي بياناتها وبينات عملائها، والدولة الواعية تحفظ سيادتها الرقمية وتبني مستقبلها دون تبعية وتكون عصية على الاعداء.

فالوعي التكنولوجي ليس رفاهية… إنه بوصلة البقاء في زمن لا يرحم الغافلين.

 

#مجلة_نهر_الأمل

اظهر المزيد
صورة wafaa alagaa

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى