مقالات

الدكتور عادل اليماني يكتب: ولذلكَ خُلِقْتَ أَيُّهَا النَّدَمُ!

الدكتور عادل اليماني يكتب: ولذلكَ خُلِقْتَ أَيُّهَا النَّدَمُ!

بقلم: الدكتور عادل اليماني

الدكتور عادل اليماني
الدكتور عادل اليماني

يقولُ أحدُهم:
كانَ أبي إذا دخلَ غُرفتي ، ووجدَ المصباحَ مضاءً، وأنا خارجُها، قالَ ليَّ: لِمَ لا تطفئُه؟ ولماذا كُلُّ هَذَا التبذيرِ في الكهرباء؟
إذا دخلَ دورةَ المياهِ، ووجدَ (الحنفيةَ) تقْطُرُ ماءً، قالَ بصوتٍ عالٍ: لِمَ لا تُحكمُ غلقَها، قبلَ خُروجِك؟ ولماذا كُلُّ هَذَا الهدرِ في المياهِ؟

دائماً ينتقدُني، ويتهمُني بالسلبيةِ،
ويُعاتبُني على الصغيرةِ والكبيرةِ!!
حتى وهو على فراشِ المرضِ
إلى أنْ جاءَ يومٌ، تهيأتْ أمامي فيه فرصةُ عملٍ ، وكانَ يوماً طالما انتظرتُه.

اليومَ ستكونُ المقابلةُ الشخصيةُ الأولى في حياتيِّ، للفوزِ بوظيفةٍ مرموقةٍ، في إحدى الشركاتِ الكُبرى، وإنْ تمَّ قَبولي، فسأتركُ هَذَا البيتَ، إلى غير ِرجعةٍ، وسأرتاحُ من توبيخِ أبي الدائمِ ليِّ.

استيقظتُ في الصباحِ الباكرِ، ولَبِستُ أجملَ الثيابِ، وتعطرتُ، وهممتُ بالخروجِ، فإذا بيدٍ تُطبطبُ على كَتِفيِّ، عندَ البابِ.

التفتُ، فوجدتُ أبي مُبتسماً، رغمَ ذُبولِ عينيه، وظهورِ أعراضِ المرضِ جليةً على وجهِه.

أعطاني بعضَ النقودِ، وقالَ ليَّ: أريدُك أنْ تكونَ إيجابياً واثقاً من نفسِك، ولا تهتزْ أمامَ أيِّ سؤالٍ.

أمازلتَ تنصحُ يا أبي ! أما آنَ أنْ يتوقفَ الأمرُ؟ وكأنَّك تتعمدُ تعكيرَ مزاجيِّ، في أسعدِ لحظاتِ حياتيِّ.

خرجتُ من البيتِ مسرعاً، وتوجهتُ إلى الشركةِ، ومكنتْني النقودُ التي أخذتُها من أبي، من استئجارِ سيارةٍ، وكانَ هَذَا أنسبَ كثيراً، للمحافظةِ علي أناقتيِّ، وعدمِ تضييعِها في المواصلاتِ العامةِ المزدحمةِ.

وما أنْ وصلتُ، ودخلتُ من بوابةِ الشركةِ، حتى أصابني العجبُ!!

فلم يكنْ هُناكَ حُراسٌ عندَ البابِ، ولا موظفُ استقبالٍ، سوى لوحاتٍ إرشاديةٍ، تقودُ إلى مكانِ المقابلةِ.

وفورَ دخولي من البابِ، لاحظتُ أنْ مَقْبِضَ البابِ قد خرجَ من مكانِه، وأصبحَ مُعرضاً للكسرِ، إنْ اصطدمَ به أحدٌ، فتذكرتُ (نصيحةَ) أبي ليَّ، عندَ خُروجي من المنزلِ، بأنْ أكونَ (إيجابياً) فقمتُ على الفورِ بردِ مَقْبِضِ البابِ إلى مكانِه، وأحكمتُه جيداً.

ثم تتبعتُ اللوحاتِ الإرشاديةَ، ومررتُ بحديقةِ الشركةِ، فوجدتُ الممراتِ غارقةً بالمياهِ، التي كانتْ تطفو من أحدِ الأحواضِ الزراعيةِ، الذي امتلأَّ بالماءِ حتي آخرِه، وقد بدا أنَّ البستانيَّ قد انشغلَ عنه، فتذكرتُ تعنيفَ أبي ليِّ على هدرِ المياهِ، فقمتُ بسحبِ خرطومِ المياهِ، من الحوضِ الممتلئِّ، ووضعتُه في حوضٍ آخرَ، مع تقليلِ ضَخِ الصنبورِ، حتى لا يمتلئَّ بسرعةٍ، إلى أنْ يعودَ البستانيُّ.

ثم دخلتُ مبنى الشركةِ، متبعاً تعليماتِ اللوحاتِ، وخلالَ صعوديِّ على الدَرَجِ، لاحظتُ الكمَ الهائلَ من مصابيحِ الإنارةِ المُضاءةِ، ونحنُ في وَضَحِ النهارِ، فقمتُ، لا إرادياً، بإطفائِها، خوفاً من صُّرَاخِ أبي، الحاضرِ دوماً في عقلي!!

إلى أنْ وصلتُ إلى الدورِ العلويِّ، ففوجئتُ بالعددِ الكبيرِِ من المتقدمين لهَذِهِ الوظيفةِ.

سجلتُ اسمي في القائمةِ، وجلستُ انتظرُ دوري، وأنا أتمعنُ في وجوهِ الحاضرين وملابسِهم، لدرجةٍ جعلتْني أشعرُ بالدونيةِ، من ملابسي وهيئتي، أمامَ ما رأيتُه، والبعضُ يتباهى بشهاداتِه الحاصلِ عليها، من الجامعاتِ الأمريكيةِ والأوروبيةِ.

ثم لاحظتُ أنْ كُلَّ مَنْ يدخلُ المقابلةَ، ما يلبثُ أنْ يدخُلَ، حتي يخرجَ، في أقلَ من دقيقةٍ!

فقلتُ في نفسي، إنْ كانَ هؤلاءِ بأناقتِهم وشهاداتِهم، ويقيناً بوساطاتِهم، قد رُفِضوا، فهل سيقبلونني؟! فهَممتُ بالانسحابِ والخروجِ، من هَذِهِ المنافسةِ الخاسرةِ، بكرامتي، قبلَ أنْ يُقالَ ليَّ: نحنُ آسفون! وبالفعلِ انتفضتُ من مكانيِّ، فأسرعتُ بالخروجِ، فإذا بالموظفِ يُنادي على اسمي للدخولِ، فقلتُ: لا مناصَ، سأدخلُ، وأمري إلى اللهِ، وعلي كُلِّ الأحوالِ، ما هي إلا ثوانٍ معدودةٍ، وينتهي كُلُّ شئٍّ، وأعودُ راضياً من الغنيمةِ بالإيابِ!

دخلتُ غُرفةَ المقابلةِ، وجلستُ على الكرسي، أمامَ ثلاثةِ أشخاصٍ، مَهيبين، نظروا إليَّ بابتسامةٍ عريضةٍ، ثم قالَ أحدُهم: متى تُحبُ أن تتسلّمَ الوظيفةَ؟!
فذُهِلتُ، وظننتُ أنَّهم يسخرون منيِّ، أو أنَّه أحدُ أسئلةِ المقابلةِ، ووراءَ هَذَا السؤالِ سرٌ لا أعرفُه! فتذكرتُ (نصيحةَ) أبي ليَّ، عندَ خروجيِّ من المنزلِ بألا (أهتزَ) وأنْ أكونَ (واثقاً) من نفسيِّ.

فأجبتُهم بكُلِّ ثقةٍ: بعدَ أنْ أجتازَ الاختبارَ بنجاحٍ، إنْ شاءَ اللهُ.

فقالَ آخرُ: لقد نجحتَ في الامتحانِ وانتهى الأمرُ! فقلتُ: ولكنَّ أحداً منكم، لم يسألْني سؤالاً واحداً!

فقالَ الثالثُ: نحنُ نُدركُ جيداً، أنَّه من خلالِ طرحِ الأسئلةِ فقط، لنْ نستطيعَ تقييمَ مهاراتِ أيٍّ من المتقدمين، ولذا قررنا أنْ يكونَ تقييمُنا للشخصِ عملياً..
فصممنا مجموعةَ اختباراتٍ عمليةٍ، تكشفُ لنا سلوكَ المتقدمِ، والإيجابيةَ التي يتمتعُ بها، ومدي حرصِه على مُقدراتِ الشركةِ، فكنتَ أنتَ الشخصَ الوحيدَ الذي سعى لإصلاحِ كُلِّ عيبٍ، تعمدْنا وضعَه في طريقِ كُلِّ متقدمٍ، وقد تمَّ توثيقُ ذلكَ، بكاميراتِ مراقبةٍ، وضعتْ في كُلِّ أروقةِ الشركةِ!

يقولُ الشابُ: حينَها فقط، اختفتْ كُلُّ الوجوهِ أمامَ عينيِّ، ونسيتُ الوظيفةَ والمقابلةَ، وكُلَّ شئٍّ، ولم أعدْ أرى إلا صورةَ أبي !!ذلكَ الذي العظيمُ، الجادُ الرحيمُ، الذي ظاهرُه القسوةُ، وباطنُه الرحمةُ والحنانُ.

عُدتُ إلي البيتِ مُهرولاً، لتقبيلِ يديه وقدميه.

عندَ بابِ منزليِّ، رأيتُ أقاربي والجيرانَ، مجتمعين، ينظرون اليَّ نظراتِ عطفٍ وأسي، ففهمتُ أنَّني وصلتُ متاخراً، وأنَّه فاتَ الأوانُ، فقد ماتَ أبي ،ماتَ العقلُ الرشيدُ، والركنُ الشديدُ، والسندُ المتينُ، والناصحُ الأمينُ. ماتَ قبلَ أنْ أقولَ له: أنتَ الصوابُ، وأنا كنتُ الخطأَ!!

#مجلة_نهر_الأمل

اظهر المزيد
صورة nahr1 Alamal

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى