الذكاء الاصطناعي التوليدي وتحديات التفكير النقدي: قراءة في الأثر الجنائي وتحديات الضبط القانوني في مصر
الذكاء الاصطناعي التوليدي وتحديات التفكير النقدي: قراءة في الأثر الجنائي
وتحديات الضبط القانوني في مصر
(سلسلة نهر الأمل للتوعية بالقانون الجنائي)
بقلم: د. محمد رمضان عيد محمود جمعه غريب
دكتوراة في القانون الجنائي

مقدمة
يشهد العالم تحوّلًا جذريًا في بنية المعرفة وإنتاجها بفعل اندماج الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) في المجالات الوظيفية والمهنية. فقد أصبحت أدوات مثل ChatGPT وغيرها تشكّل عناصر مساعدة في الكتابة، التحليل، البحث، وحتى اتخاذ القرار. لكن هذا التطور التقني الهائل لا يخلو من آثار جانبية تمس صميم القدرات الإدراكية للبشر، وعلى رأسها “التفكير النقدي”، الذي يُعد عنصرًا جوهريًا في الإدراك القانوني، وخصوصًا في ميدان العدالة الجنائية.
في هذا السياق، يبرز تساؤل بالغ الأهمية: هل يمكن أن يُحدث الذكاء الاصطناعي التوليدي نوعًا من الخمول العقلي الذي قد يؤثر على تمييز الفرد، وقراراته، ومسؤوليته الجنائية؟ وهل يُمكن مساءلة من يعتمد عليه في أداء واجبات قانونية أو مهنية تؤدي إلى ضرر جسيم؟
أولًا: الذكاء الاصطناعي التوليدي وتحول الوظيفة الإدراكية
لقد باتت المهام المعرفية في المؤسسات تعتمد بصورة متزايدة على أدوات الذكاء الاصطناعي، وهو ما أحدث نقلة من “الاجتهاد الفردي” إلى “الاعتماد الإجرائي على الخوارزمية”. هذا التحول ليس بالضرورة سلبيًا، لكنه أعاد توجيه الجهد العقلي من التفكير المستقل إلى المراجعة السطحية أو التأكيد على مخرجات الذكاء الاصطناعي.
في السياق الجنائي، يمكن أن يُطرح التساؤل حول مسؤولية الفاعل الذي اتخذ قرارًا مهنيًا أو قانونيًا اعتمادًا على نصّ أنشأته خوارزمية دون تحقق، خصوصًا إن ترتب على ذلك ضرر بمصالح الغير أو إخلال بوظيفة عامة. هذا يقودنا إلى إعادة تقييم مبدأ الخطأ غير العمدي الناتج عن “ثقة مفرطة” في وسيلة تقنية.
ثانيًا: ملامح التأثير على التفكير النقدي وأثره في المسؤولية القانونية
يُعرَّف التفكير النقدي بأنه قدرة الإنسان على التقييم المستقل، والتمييز بين الصحيح والزائف، والتحقق من المعلومة قبل اتخاذ القرار. ومع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل النصوص، أصبح بعض الأفراد يعتمدون على مخرجاته دون تحقق أو مراجعة منهجية، وهو ما يُنتج ظاهرة “الانسحاب العقلي” أو ما يمكن تسميته بالكسل الإدراكي.
من منظور القانون الجنائي المصري، هذا التحول يمكن أن يُعيد صياغة مفاهيم مثل:
الركن المعنوي في الجريمة غير العمدية:
إذ قد يُثار التساؤل حول ما إذا كان الاتكال على الذكاء الاصطناعي دون مراجعة يُشكل “إهمالًا جسيمًا” أم “خطأ مبررًا”.
المسؤولية التأديبية أو المهنية:
في حال تسبب اعتماد أداة توليدية على ضرر بمستند رسمي أو تضليل في بيانات.
ثالثًا: جرائم النشر والمحتوى المُضلل الناتج عن الذكاء الاصطناعي
في ظل القدرة التوليدية للذكاء الاصطناعي على إنتاج محتوى مكتوب، بات من السهل إنشاء مقالات، تقارير، أو حتى تحليلات قانونية تبدو متماسكة لكنها في الواقع قد تكون غير دقيقة أو محملة بمعلومات زائفة. وفي مصر، تُعد جريمة نشر أخبار كاذبة أو مستندات مزورة إحدى الجرائم الماسة بأمن المعلومات وسلامة الإدراك العام، خاصة إذا ما توافرت نية الإضرار أو إثارة الرأي العام.
من هنا، فإن مجرد التذرّع بأن “الذكاء الاصطناعي هو من كتب” لا يُعفي المستخدم من المسؤولية الجنائية، طالما كان لديه وقت ووسيلة للتحقق، خصوصًا إذا كان ينتمي إلى فئة المتخصصين أو المكلفين بمسؤولية قانونية.
رابعًا: ضرورة دمج “محو الأمية الرقمية” في الثقافة القانونية
لمواجهة هذه التحديات، لا بد من تعزيز ما يمكن تسميته بـ محو الأمية الرقمية القانونية، أي تأهيل القانونيين، القضاة، المحققين، والموظفين العامين على التعامل النقدي مع أدوات الذكاء الاصطناعي، وليس فقط استخدامها.
ويشمل ذلك:
– تدريب على التحقق من مخرجات الذكاء الاصطناعي.
– استخدام أدوات كشف المحتوى المزيف أو غير المؤكد.
– تعزيز أخلاقيات المهنة القانونية في زمن التحول الرقمي.
– إدخال مقررات “الذكاء الاصطناعي القانوني” و”الأدلة الرقمية” ضمن مناهج كليات الحقوق.
خامسًا: ملاحظات تشريعية مطلوبة على المستوى المصري
بناءً على ما سبق، يقتضي الواقع القانوني المصري بعض التحركات التشريعية المستجيبة لهذه الظواهر، ومنها:
1. تعديل بعض أحكام قانون العقوبات لتشمل صور “الإهمال الناتج عن الاعتماد غير النقدي على الذكاء الاصطناعي”.
2. إضافة نصوص في قانون المسؤولية الطبية تتعلق بالتشخيص أو الوصف الدوائي الناتج عن الذكاء الاصطناعي.
3. وضع إطار قانوني لمحاسبة الشركات التي تروج لأدوات ذكاء اصطناعي توليدي دون تنبيه قانوني بمحدودية دقتها أو آثارها المحتملة.
4. إصدار لائحة تنظيمية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المؤسسات العامة، لا سيما القضائية أو الرقابية.
خاتمة
إننا في مرحلة دقيقة من التاريخ القانوني، حيث لم تعد المسؤولية الجنائية مجرد انعكاس لإرادة بشرية مباشرة، بل أصبحت معقدة بتقنيات قد تُنتج “جريمة بلا نية واضحة”. ومن ثم، فإن الضبط القانوني لأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وإعادة الاعتبار لمهارات التفكير النقدي، لا يُعد ترفًا تنظيريًا بل ضرورة لحماية العدالة نفسها.









