الشاشات والتعليم: بين التهويل المجتمعي والتنظيم القانوني – مقاربة جنائية مصرية لرؤية مغلوطة
الشاشات والتعليم: بين التهويل المجتمعي والتنظيم القانوني – مقاربة جنائية مصرية لرؤية مغلوطة

بقلم: دكتور/ محمد رمضان عيد محمود جمعة غريب
دكتور في القانون الجنائي
مقدمة: هل الشاشات خطر أم شماعة؟
لم يعد من الدقة العلمية أو القانونية أن نطرح التساؤل: “هل الشاشات ضارة؟”، بل الصياغة الأكثر اتساقًا مع الواقع هي:
“في أي ظروف تصبح الشاشات وسيلة آمنة ومفيدة، ومتى يتحول استخدامها إلى فعل قابل للمساءلة الجنائية؟”
فالمشكلة لا تكمن في وجود الأجهزة، بل في طريقة استخدامها، وضبط المحتوى، ومدى وعي الأسرة والمؤسسات التعليمية بحدود هذا الاستخدام. تجاهل هذه الأبعاد يفتح الباب أمام سياسات حظر قاصرة، تُنتج آثارًا عكسية، وتُرسّخ التفاوت بين الطلاب، وتحوّل التقنية من أداة دعم إلى “عدو” وهمي.
⚖️ أولًا: التكييف القانوني لاستخدام الشاشات في المجال التربوي
من زاوية القانون الجنائي المصري، فإن استخدام الشاشات يرتبط بمفاهيم المسؤولية الجنائية حال انطوائه على:
1. محتوى ضار أو غير ملائم (عنف، إيحاءات، تحريض، تنمّر)؛
2. إهمال في الإشراف الأسري أو المدرسي؛
3. تعميم الوصول على جمهور قاصر دون ضوابط.
وتخضع هذه السلوكيات لمجموعة من التشريعات الوطنية، من أبرزها:
قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018؛
قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020؛
قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003 وتعديلاته؛
قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته؛
بالإضافة إلى الضوابط المستحدثة في قانون المسؤولية الطبية وسلامة المرضى رقم 13 لسنة 2025، فيما يخص تعامل المؤسسات الطبية والتعليمية مع الأطفال نفسيًا وإعلاميًا.
وبالتالي، فإن وجود الشاشة في حد ذاته لا يُعتبر خطرًا، لكن الخطورة تنشأ عندما يتحول الاستخدام إلى سلوك سلبي غير مراقب، خاصة إذا ترتب عليه ضرر فعلي للطفل أو خرق للقيم العامة أو الأمن المعلوماتي.
🧠 ثانيًا: الفهم المجتمعي المغلوط وآثاره القانونية
من واقع التحليل الاجتماعي القانوني، أرى – كباحث في القانون الجنائي – أن التناول العشوائي لقضية الشاشات بات مشوبًا بمبالغة خطيرة؛ إذ:
> “حين نحارب الشاشات لمجرد كونها شاشات، نُضيِّع على أنفسنا فرصة تربوية عظيمة.”
فالشيطنة المطلقة للتكنولوجيا تؤدي إلى قرارات مرتجلة تفتقر للتدرج والعدالة، وتُقصي الفئات الأقل قدرة على الوصول لبدائل تعليمية، وتخلق تمييزًا رقميًا قائمًا على الطبقة، وهو ما يُخالف بوضوح المبادئ الدستورية التالية:
تكافؤ الفرص التعليمية؛
حظر التمييز لأي سبب؛
ضمان الوصول إلى بيئة رقمية عادلة وآمنة.
وعليه، فإن فرض الحظر على الشاشات في المدارس الحكومية مع الإبقاء عليها في المدارس الخاصة والدولية، يُعد تمييزًا سلبيًا قد يُثير شبهة عدم دستورية، فضلًا عن كونه إخلالًا بمبدأ العدالة التعليمية.
📲 ثالثًا: من الشاشات إلى المخالفة – رؤية النيابة العامة ووزارة الداخلية
شهدت المنظومة القانونية المصرية تطورًا ملحوظًا مؤخرًا فيما يتعلق برصد ومكافحة المحتوى الرقمي الضار. فقد أعلنت النيابة العامة المصرية عن إطلاق رقم مباشر لتلقي البلاغات حول الفيديوهات والمحتويات الرقمية المخالفة، وفعّلت آليات الرصد الإلكتروني التلقائي باستخدام الذكاء الاصطناعي.
وبالتنسيق مع وزارة الداخلية، يتم:
التحقق الفني من المحتوى المُبلّغ عنه؛
القبض الفوري على الناشر في حالات الضرر أو التحريض المباشر؛
إحالة أولياء الأمور إلى التحقيق حال ثبوت الإهمال الجنائي في الإشراف على الأطفال عند استخدام الشاشات؛
فحص الأجهزة المضبوطة رقميًا للتأكد من مدى تكرار الجرم، مما قد يُشكل ظرفًا مشددًا للعقوبة.
وتلك الإجراءات تعكس نقلة نوعية في الفكر الجنائي المصري، لا تكتفي بالعقوبة، بل تبدأ بالوقاية والردع والتحليل الفني.
🌐 رابعًا: من التجريم إلى التقنين – متى تصبح الشاشات ضرورة قانونية؟
المرجع في تقييم استخدام الشاشة لا يجب أن يُقاس فقط بـ”مدة التعرض”، بل بـ:
جودة المحتوى؛
السياق الأسري والتربوي؛
عمر الطفل وفهمه؛
الهدف من المشاهدة (تعليم – ترفيه – تفاعل اجتماعي).
ومن هنا، فإن القانون المصري مطالب بالانتقال من منطق الردع العام إلى إعداد معايير ضابطة، تُميز بين الاستخدام الإيجابي والسلبي، مع إدماج التربية الرقمية في المناهج التعليمية.
🧾 خاتمة: القانون لا يُجرّم الوسيلة بل يُنظم السلوك
إن القانون الجنائي لا يُعادي الوسائل، بل يُنظم طريقة استخدامها ويُقيّم آثارها.
وحين تُستخدم الشاشات في التعليم، فإنها قد تمثل أداة عدالة رقمية إن أُحسن توظيفها، أو وسيلة خرقٍ قانوني إن أُسيء استخدامها.
المطلوب إذًا ليس تجريم الشاشات، بل تقنين استخدامها، وتأهيل الأسر والمدارس والمعالجين التربويين على الاستخدام الواعي.
والدور القادم يقع على عاتق المشرّع المصري لوضع لائحة رقمية تربوية وقائية، تُحدّد بوضوح:
ما يُعتبر مخاطرة رقمية؛
ما يُشكل جريمة رقمية تربوية؛
ما يوجب على ولي الأمر أو المعلم القيام به من التزامات قانونية تحت طائلة المسؤولية.









