الميتافيرس بين الفوائد والمخاوف
بقلم : الدكتور محمد اليماني
الميتافيرس بين الفوائد والمخاوف
الميتافيرس معناها ( ما وراء العالم Metaverse ) وهو الإسم الجديد لشركة التواصي الإجتماعي ” فيسبوك ” وهي رؤية جديدة للعالم الإفتراضي المستقبلي ودمجه مع الواقع ، حيث سيمكنك وأنت في منزلك أن تتواجد بشكل فعلي في أي مكان آخر، وأن يتفاعل معك الآخرون وكأنك فعلًا في هذا المكان .
وفيسبوك وشركات أخرى لا تعمل في هذا المجال التقني بدافع الابتكار فقط ، بل نجاح هذه الفكرة ستسمح للشركة بتحقيق مبيعات ضخمة، من خلال بيع الأجهزة والمستلزمات الضرورية لدخول الميتافيرس، وكذلك بيع السلع الافتراضية التي سيمكنك استخدامها وأنت داخل هذا العالم .
ستكون مغمورًا بالكامل في العالم الافتراضي، وبارتدائك جهاز حول الرأس ستكون قادرًا على التفاعل بشكل يطابق جميع تحركاتك الواقعية التي تريد إرسالها إلى الأشخاص الذين يتفاعلون معك من خلال الميتافيرس، ولمن لا خبرة لهم به، قد يبدو الميتافيرس وكأنه نسخة منقحة من الواقع الافتراضي ، لكن البعض يعتقدون أنه قد يصبح مستقبل الإنترنت. ان خلق الواقع الممتد “Extended Reality” الذي يجمع بين العالم الافتراضي المعزز، والعالم الواقعي ، وبدلاً من الجلوس أمام جهاز كمبيوتر فإن كل ما ستحتاج إليه عند الاتصال بالميتافيرس هو نظارة أو جهاز يوضع على الرأس وانترنت سريع ، لكي تتمكن من دخول عالم افتراضي يربط بين مختلف أنواع البيئات الرقمية . تلك الفكرة التي تمثل الطفرة القادمة في عالم الإنترنت، وستصبح الوسيلة الرئيسة للمشاركة الاجتماعية والتجارية ، وعلينا ان نتفهم الجوانب الإيجابية والسلبية للميتافيرس، وما هي تداعيات استخدامه؟
كلنا نرى في هذه الأيام أطفالا يعكفون على لُعْبَة معينة مدة ساعات طويلة لدرجة أنهم لا يفكرون في الطعام أو الشراب أو النوم؛ لدرجة تحدث معها بعض حالات الوفاة والمرض أحيانًا ، مما يقلل الترابط الأسري ويضعف من التواصل المجتمعي الحقيقي ، وهناك تأثيرات سلبية نفسية بسبب تغيير نمط تفكير الأشخاص في الحياة وتتغير المشاعر الإنسانية ويحدث انفصال عن الواقع مع ادمان الهروب الى العالم الإفتراضي ..
ونحن هنا لا نناهض فكرة التطور والدعاية الرقمية، ولا نسعى لكبت الحرية الشخصية في استخدام الميتافيرس أو غيره من وسائل التواصل عبر الإنترنت، ولكننا قلقون بشأن هذه المستجدات التي قد تُغير حياة الأشخاص إلى ما لا يحمد عقباه ، لأننا أننا أمام جيل جديد من الإنترنت والتواصل الإنساني وتفاعل اجتماعي من مستوى أكثر تعقيداً وتقدماً وتطورا ً .
تعمل الشركات المتخصصة في عالم الـ”ميتافيرس” والمبرمجين على الربط بين العالمين الافتراضي والواقعي، في حال تحقيق مكاسب أو خسائر في الافتراضي فمن المتوقع أن تسمع صدى ذلك في عالمك الواقعي ، وفي حال تجربتك شعوراً معيناً مثل القفز بالمظلة من أعلى جبل في عالم الـ”ميتافيرس”، فمن المفترض أن تشعر بالشعور الحقيقي لتلك القفزة كما لو أنك قد نفذتها في العالم الواقعي ، ان عالم الـ “ميتافيرس” يمكن أن يغير طريقة عملنا في شركاتنا وطريقة إنفاقنا للنقود،وطريقة تفاعلنا مع بعضنا البعض وطريقة تكوين الصداقات، هو الجيل الأحدث للتطور الاجتماعي للبشرية كلها ، و منذ إعلان “فيسبوك” تغيير اسمها إلى “ميتا” فقد أصبح موضوع الـ “ميتافيرس” محل بحث ونقاش وجدل كبير حول العالم، نظراً لما تمثله شركة “فيسبوك” من وزن ثقيل في سوق التقنية ، واصبح الميتافيرس هو الحدث التكنولوجي الأبرز والذي يترقبه الجميع ..
تعرف ميتافيرس بأنها سلسلة من العوالم الافتراضية التي تضم تفاعلات لاحصر لها بين المستخدمين من خلال الأفاتار الخاص بكل مستخدم (الأفاتار هو الشبيه الإفتراضي الذي سيختاره المستخدم ليمثله) والتي ربما لن تقتصر على ممارسة الألعاب والترفيه فقط، بل ستتيح هذه التقنية كذلك العديد من التفاعلات الخاصة بالأعمال. وتهدف ميتافيرس إلى أخذ تقنيات الواقع الافتراضي إلى مستويات غير مسبوقة ، إن الأمر أشبه بتحويل الإنترنت إلى بيئة ثلاثية الأبعاد لا يقتصر دور المستخدم على النظر إليها أمام شاشته بل الدخول في هذه البيئة بنفسه حتى يصبح أحد عناصرها، ولتنفصل حواسه عن عالمه الحقيقي فترة بقائه في العالم الافتراضي.
يدخل المستخدم إلى هذا العالم ليجد نفسه داخل سلسلة من المجتمعات الافتراضية المترابطة والتي لا نهاية لها، يمكنه من خلالها التقاء عدد كبير من الناس المتاح التعامل معهم إما للعمل أواللعب، كل ما يحتاجه لذلك سماعات الواقع الافتراضي ونظارات الواقع المعزز وما ترتبط به من تطبيقات الهواتف الذكية وانترنت سريع ، مما سيجعل معظم تجارب ميتافيرس المتطورة بعيدا عن متناول الكثيرين خاصة في الدول النامية.
لن تقتصر الاستفادة من ميتافيرس على ممارسة الألعاب أو حتى عقد اجتماعات العمل بشكل افتراضي، بل ستتأثر جميع الأنشطة التي يمارسها مستخدم الإنترنت بهذا العالم، فعلى سبيل المثال سيشهد التسوق الإلكتروني نقلة نوعية داخل هذا العالم، حيث يكون المستخدم قادرا على معاينة أي شيء يريد شرائه عن قرب بدلا من مجرد معاينة صور في الشكل التقليدي المعروف الآن للمتاجر الإلكترونية ، ومع تطور عوالم ميتافيرس سيصبح كل نشاط إنساني في الواقع الحقيقي متاحا بكل تفاصيله في العالم الافتراضي، الأمر الذي يعني أن الإنسان ربما يكون قادرا على البقاء في العالم الافتراضي لفترات أطول، فهو إما مسترخيا في منزله الافتراضي أو يمارس إحدى الألعاب أو الرياضات مع أصدقاء من مختلف أنحاء العالم، أو يعقد اجتماعات افتراضية أو يتسوق ما يحتاجه من متاجر على الجانب الآخر من الكوكب او مشاركا في التجارة الإلكترونية والتسوق وتنظيم الحفلات وعقد المؤتمرات والاجتماع بفريق العمل داخل الشركة ومقابلة الأصدقاء من عوالم مختلفة والتفاعل معهم والشعور بشكل أقرب ما يكون للواقع.
ويتوقف جزء كبير من النجاح المنتظر لعوالم متيافيرس على قدرة شركات التكنولوجيا على التعاون فيما بينها لربط منصاتها عبر الإنترنت ببعضها البعض في هذا الكيان الموحد، وأن تعاون تلك الشركات يتطلب أن تتفق فيما بينها على مجموعة من المعايير الموحدة، ما يعني أنه لن يوجد مستخدمي فيسبوك ميتافيرس ولا مايكروسوفت ميتافيرس، بل فقط مستخدمون ميتافيرس ككيان موحد .
ومن المخاوف المتوقعة : ارتفاع التكلفة للنظارات والإنترنت السريع (وعدم اتاحتها للجميع ) واستغلال الخصوصية لتحقيق الأرباح ، وهناك مخاوف من التأثيرات السلبية سواء النفسية والعصبية والمجتمعية .
تقوم الفكرة الأساسية لميتافيرس على تحرير الثقافات ومزجها ببعضهاعن طريق تفاعل سهل وسريع بين سكان القارات المختلفة، ما يعني سهولة أكبر لاطلاع المستخدمين العاديين على بيانات أكبر للمستخدمين الآخرين، فالأمر لن يقف عند حد الاطلاع على البيانات الشخصية والصور فقط، بل ستكون تفاصيل الحياة في العالم الافتراضي، والتي تحاكي الواقع، متاحة للجميع. صحيح أننا نريد التنقل عبر الإنترنت بسهولة، لكننا نريد أيضًا أن يحدث ذلك بطريقة لا يمكن تتبعها ومراقبتها ، و ستظل الإعلانات في كونها جزءا مهما من الاستراتيجية عبر منصات التواصل الاجتماعي لما نقوم به، ومن المحتمل أن تكون جزءا مفيدا من ميتافيرس أيضا ، ولكننا نعرب عن قلقنا إزاء محاولة شق فيسبوك طريقا إلى عالم افتراضي قد يتطلب المزيد من البيانات الشخصية ويسمح بإمكانية أكبر لسوء الاستخدام والمعلومات الخاطئة في ظل عدم سعي الشركة لإصلاح هذه المشكلات في منصتها الحالية.
يتبقى أن تكشف الأيام المقبلة عما ينتظر عالم التكنولوجيا، وذلك عندما تصبح ميتافيرس في متناول الجميع متغلبة على عوائق انتشارها، فمشكلة ارتفاع سعر نظارات العالم الافتراضي قد لا تدوم طويلا حال ظهور شركات تقدمها بأسعار أقل في سبيل تحقيق الربح من المبيعات الضخمة التي ستشمل حينها مليارات البشر، ومن الفوائد انه سيكون بإمكان المستخدم التنقل الفوري كصورة ثلاثية الأبعاد حيث يمكنه التواجد في المكتب، أو حضور حفلة موسيقية مع الأصدقاء، أو التواجد في غرفة المعيشة مع العائلة وكلّ ذلك دون تنقل . الأمر الذي سيخفّض من اختناقات حركة المرور وانبعاثات الكربون ، ومن الفوائد المنتظرة للميتافيرس : اتاحة التجول عبر القارات ، والتسوق الإلكتروني ثلاثي الأبعاد ، وأداء مختلف الأعمال الوظيفية والتجارية والصحية ، وتخفيض زحام المرور مما يخفف انبعاثات الكربون ، وتعزيز التواصل مع الآخرين ..
أن الميتافيرس سيصف فعليًا توحيد العالمين الرقمي والواقعي. فنظارات الواقع المعزز التي تغلف مجموعة بيانات غنية في الشارع بينما تمضي في يومك، وتستعين بمصادر خارجية للمهام من عقلك. سيتطلب ذلك بطبيعة الحال نظارات ذكية بشاشات شفافة قادرة على إعادة إنتاج هذه البيانات بطريقة مفيدة ، ناهيك عن قفزة نوعية في رؤية الكمبيوتر ومعالجة البيانات وعمر البطارية لجعلها قابلة للاستخدام طوال اليوم ، أصبح عالم «الميتافيرس» يهيمن على استراتيجيات كبرى الشركات التي أعادت خططها في تصميمها لمنتجاتها اعتماداً عليه، وسط تساؤلات حول ماهية المصطلح، والأسباب وراء استدعائه من جانب كثير من المؤسسات. ونظرًا للتوترات الحالية بين التكنولوجيا الكبيرة والحكومات في جميع أنحاء العالم بشأن الخصوصية وحرية التعبير والأضرار عبر الإنترنت، يجب أن نفكر بجدية في نوع الميتافيرس الذي نريد إنشائه ومن الذي يمكنه إنشاؤه وامتلاكه وتنظيمه .
وختاما نوصي بضرورة قيام علماء النفس وعلماء الاجتماع بدراسة تاثير الميتافيرس على افراد الاسرة العربية ، وتنظيم حملات توعية مستمرة عن هذا الواقع الافتراضي ، وتدريب وتطوير مهارات الشباب على متطلبات الثورة الصناعية الرابعة لايجاد فرص عمل عالمية والتدريب على المهارات التي تؤهلهم للاستعداد والاستفادة من تقنيات الميتافيرس والتكنولوجيا المصاحبة لها ، وتطوير بعض القوانين والتشريعات لتواكب العالم الافتراضي ، والاهتمام باجراءات امن وسرية و خصوصية المعلومات ، و تكاتف جهود كل المعنيين لادخال مناهج للتعليم ما قبل الجامعي خاصة بتوجهات التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والواقع المعزز و الميتافيرس ، وسبل حماية البيانات الشخصية والخصوصية ، و تبني وسائل الاعلام المصرية والعربية برامج التوعية باهمية مخاطر وفوائد الميتافيرس ، وعمل عقود مشروطة بين الاباء والابناء عند اهدائهم او شراء أجهزة حديثة الكترونيه او اشراكهم في الشبكة العنكبوتية عن كيفية وغرض ومدة الاستعمال ، والتركيز على القيم الدينية والاجتماعية في الاسرة العربية بجانب التركيز على التوعية النوعية الجيدة للأسرة العربية .
د. محمد اليماني
رئيس المجلس العربي للطاقة المستدامة
عضو المجلس الأعلى لنقابة المهندسين
[email protected]
#مجلة_ نهر _الامل