اليماني يكتب: وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه.. أكتوبر كمان وكمان!!
اليماني يكتب: وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه.. أكتوبر كمان وكمان!!
بقلم: د. عادل اليماني

قالَ ليِّ والدي، شيخ مشايخ سيناء، سالمان اليماني، رحمةُ اللهِ تعالي عليه: يا ولدي، بعد يونيو الحزين، صبرنا صبراً فاق كل صبر، ومرت علينا أيامٌ أحلي ما فيها مُر، وعملنا جاهدين حتي مطلع الفجر من أجل أن يبدل الله عُسرنا بيسر، قواتنا المسلحة الباسلة عبرت القناة، وهزمت الطُغاة، بدأت باسم الله، الله أكبر.
وعلي أرض سيناء، أقامت الصلاة.
عدل السماء، وأعدّوا لهم.
فضل السماء، وما النصر إلا من عند الله.
لقد أعد أبناء مصر المخلصون للمعركة، وأخذوا بكل أسباب النصر، وكانت يد الله فوق أيديهم، فكان السند والمدد منه سبحانه، وزُلزلت الأرض من تحت أقدام عدوهم، وضاقت عليهم أرض سيناء علي اتساعها.
لقد قالوها، وكرروها: المصريون لن يستطيعوا، لأنهم لو حاولوا، سيكون في المحاولة هلاكُهم، فلقد أقمنا السواتر المتينة، والنقاط الحصينة، والسدود المنيعة، حتي مياه القناة ستتحول ناراً حامية، لا تُبقي ولا تذر، فعلى المصريين، إن أرادوا النجاة بجنودهم، أن يستبعدوا تماماً فكرة العبور هذه، فهي والمستحيل سواء!
هذه قناعاتهم، لكنَّ قانون الله: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
لما تركَ المُعلمُ الأولُ، صلي اللهُ عليه وسلمَ، مكةَ مُهاجراً، قالَ: مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ، مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ.
وحينَ وطأتْ قدماه الشريفتانِ المدينةَ المنورةَ، قالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدّ.
هو الوطنُ يا سادة، شرفُ الإنسانِ وكرامتُه، ومبعثُ فخرِه وعزتِه، وهو أصلٌ أصيلٌ، وركنٌ ركينٌ، في الدِينِ نفسِه، ولا يكتملُ الإيمانُ بدونِه.
وهي رسالةٌ ما أعظمَها، وما أكملَها، يبعثُ بها رسولُ الإنسانيةِ، ومبعوثُ الرحمةِ الربانيةِ، إلي الناسِ جميعاً، في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، مؤداها أنَّ حُبَّ الوطنِ عبادةٌ تامةٌ شاملةٌ متكاملةٌ.
قال (ص): مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا.
ترتيبٌ شديدُ الدقةِ والعبقريةِ، منه (ص) لأولوياتِ احتياجاتِ الإنسانِ، والبدايةُ المنطقيةُ، بالأمنِ والأمانِ، أي بالوطنِ، الذي يحمي ويزودُ ويُدافعُ، فلما تطمئنُ القلوبُ، يأتي ما تبقي من احتياجاتٍ، ولو تدنتْ إلى (قوت) ومفهومٌ أنَّ (قوت) بخلافِ (طعام) فالقوتُ قليلٌ للغايةِ، يكفي بالكادِ لإبقائِك حياً، أما الطعامُ فهو كثيرٌ، وفيه وفرةٌ، ورغمَ أنَّه مجردُ (قوت) إلا أنه مع نعمتي الأمنِ والعافيةِ، يعلو بالإنسانِ إلي مرحلةِ إمتلاكِ الدُنيا كُلِّها، وهو ما نفهمُه في كلمةِ (حِيزَتْ) بل وفي روايةٍ أُخري، أعقبَ هَذِهِ الكلمةَ، كلمةٌ أُخري أشدُ خطورةٍ، وهي (بِحَذَافِيرِهَا).
من أجلِ الوطنِ نُقاتل{قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}.
ومن أجلِ الوطنِ نتشاركُ ونتعاونُ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
ومن أجلِ الوطنِ، ننبذُ الخلافَ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
ومن أجلِ الوطنُ يحرِصُ كلُّ فردٍ مِن أفرادِ المُجتمعِ، على بذلِ الجهدِ، وتقديمِ الخيرِ، وكفِّ الأذَى والضَّرر عن البلاد وأهلِها.
مِنَ الجَميل أنْ يموتَ الإنسانُ من أجلِ وطنِه، والشئُّ الأكثرُ جَمالاً، أنْ يحيا هَذَا الإنسانُ من أجلِ هَذَا الوطن.
إنَّ مَنْ خانَ وطنَه، وباعَ بلادَه، كمَنْ يسرقُ من بيتِ أبيه، ليُطعمَ اللصوصَ، فلا اللصُ يكافئُه، ولا أبوه يُسامحُه.
إنَّ حُبَّ الوطن، غريزةٌ متأصِّلة في النفوسِ، تجعلُ الإنسانَ يأنس بالبقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غابَ عنه، ويدافعُ عنه إذا هُوجِم، ويَغضبُ له إذا أُضِيرَ، وعلي هَذَا الأساسِ، فطرَ اللهُ الأسوياءَ، وأنارَ به سُبحانَه، قلوبَ العُقلاءِ.
وطنى لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه، نازعتنى إليه فى الخُلدِ نَفسي.
الوطنُ ماضينا وحاضرُنا، تاريخٌنا وذكرياتُنا، أملُنا ورجاؤنا، وقبلَ ذلكَ كُلِّه، هو النعمةُ العظيمةُ، التي نسألُ اللهَ دوامَها.









