الاخبار

التقدم التكنولوجي المتوهم.. حين تتحول الرقمنة إلى ديكور إداري

مقال بقلم: د. محمد علي – استشاري التحول الرقمي والأمن السيبراني

التقدم التكنولوجي المتوهم.. حين تتحول الرقمنة إلى ديكور إداري

 

بقلم: د. محمد علي – استشاري التحول الرقمي والأمن السيبراني

هل أصبحت التكنولوجيا أداة لإخفاء العجز؟

 

 

كانت صيحات الموضة يومًا ما وسيلة للتفاخر الاجتماعي يتسابق إليها الأفراد من مختلف الطبقات لإظهار الرقي والثقافة، فنجد رجال وسيدات المجتمع الراقي بالأخص يحرصون على كل ما هو جديد حتى وإن لم يناسبهم أو يلائم طبيعتهم. وهكذا، ما تلبث موضة أن تختفي وتزول حتى تحل أخرى محلها.

أما في السنوات الأخيرة، فقد ظهرت موضة جديدة من نوع مختلف، ترفع شعارات التطور والحوكمة في إدارة الأعمال، هي موضة التحول الرقمي.

تسارعت الحكومات والمؤسسات خصوصًا تلك التي في الدول النامية لتبني هذا المصطلح، سعيًا للحاق بالتكنولوجيا التي صارت معيارًا لتقدم الأمم وقوتها.

فما إن تطورت الصناعة وإدارة الأعمال في الدول الصناعية الكبرى بسبب اعتمادها على مفهوم التكنولوجيا الرقمية الحديثة، حتى سارعت الدول الأخرى الغنية منها والفقيرة إلى السعي بكل الطرق إلى تقليدها، ظنًا أن امتلاك التطبيقات والمنصات الرقمية وحده كفيل بإحداث التطور، لكن عندما نقترب من الواقع نجد أن كثيرًا من تلك المشروعات ما هي إلا قشرة براقة، تحاكي مظهر التكنولوجيا دون أن تمتلك روحها. إنها ما أسميه في رأيي بالتكنولوجيا المتوهمة أو التقدم التكنولوجي المتخيل.

ما المقصود بالتكنولوجيا المتوهمة؟

علينا أن ندرك أن التكنولوجيا صناعة شأنها شأن كل الصناعات المادية الأخرى، فهي صناعة لها أصول ومعايير وطرق تنفيذ مدروسة يجب اتباعها للوصول إلى نتائج حقيقية، لكن ما يحدث في كثير من المؤسسات هو اختيار واستخدام التكنولوجيا بلا دراسة أيٍّ منها الأنسب، لمجرد اللحاق بالترند أو استعراض الإنجاز، فيخلق عندنا نوع من أنواع التكنولوجيا المتوهمة؛ صورة للتكنولوجيا لكن دون أداة فاعلة، فتظهر أنظمة ضخمة تستهلك المال والوقت والجهد، لكنها لا تقدّم خدمة حقيقية، ولا تُحدث فارقًا في الأداء ولا تصيب تطورًا مطلوبًا أو كفاءة متوقعة، لأنها تفتقر إلى الفكر الرقمي الذي يجب أن يصاحبها.

تتحول فيها الأنظمة إلى مجرد قوالب برمجية لحفظ البيانات واستدعائها، بدل أن تكون أدوات تحليلية تساعد في اتخاذ القرار، فيتم تسجيل المعاملات إلكترونيًا لكن القرارات لا تزال تتخذ ورقيًا بطرق يدوية والعقلية الإدارية التقليدية عقلية الأمس، فنجد أنفسنا بعد كل الجهد وسنوات البذل قد قمنا برقمنة الشكل لا الجوهر.

السبب وراء ظهور التكنولوجيا المتوهمة والذكاء الاصطناعي المتوهم

كما ذكرنا سابقًا إن التكنولوجيا صناعة لها أصول يجب احترامها لتحقيق الغاية، لكن ما يحدث في كثير من الدول وبالأخص غير المنتجة للتكنولوجيا وأدواتها هو تحول رقمي بغير اتباع أصول تلك الصناعة؛ تسابق الزمن لإطلاق الأنظمة دون المرور بمراحلها الطبيعية، فالسرعة في الإنجاز تطغى على الجودة وهو موروث ثقافي لم ننفك عنه، فالهدف يصبح إطلاق النظام في الموعد المحدد وليس تحقيق أثر فعلي على الأرض، المهم أن تُدار العجلة، وإن دارت في الاتجاه المعاكس لا بأس، وإن أخذت مجهودًا ووقتًا وتكلفة أكبر لإعادتها إلى مسارها الصحيح فلا بأس أيضًا، فتُقاس النجاحات بعدد التطبيقات لا بمدى تأثيرها، ويكون ذلك بحسن نية أو بسوء إدراك أو لعدة أسباب منفردة أو مجتمعة منها:

· ضعف الفهم الشامل لمفهوم التحول الرقمي فيُختزل في مجرد تطبيق أو موقع إلكتروني.
· غياب الكفاءات المتخصصة القادرة على التصميم والتحليل والتكامل بين الأنظمة.
· الاعتماد على الشركات المنفذة فقط دون إشراك الكوادر الوطنية في نقل المعرفة أو بناء القدرات.
· تجاهل بناء الإنسان وهو الركيزة الأساسية لأي عملية تحول حقيقية.

فالنتيجة تكون مشروعات ضخمة، وتطبيقات متعددة، لكن دون تغيير حقيقي في كفاءة الأداء أو رضا المواطن، فتتحول التكنولوجيا إلى استثمار خاسر أو في أحسن الظروف بطيء المردود، فتنفق الدول مليارات الدولارات على مشروعات رقمية، لكنها لم تحقق الطفرة المرجوة، لأن الاستثمار كان في الآلة لا في الإنسان، يُشترى النظام وتعمل الخوادم وتفتح المراكز الإعلامية، لكن المستخدم الذي سيتعامل مع هذه الأنظمة لم يتم تدريبه ولم تتغير ثقافته ولم يُمكَّن كما أنه لم يُحفَّز، فتتحول الرقمنة من وسيلة للتطوير إلى عبء إداري جديد يضيف خطوة أخرى بدل أن يختصرها.

الذكاء الاصطناعي المتوهم

الأمر نفسه ينطبق على الذكاء الاصطناعي، ففي كثير من المشاريع يُستخدم المصطلح كديكور دعائي لا أكثر، نسمع بين الحين والآخر عن أنظمة ذكاء اصطناعي تم اعتمادها لكنها في الحقيقة مجرد تطبيقات أرشيفية بسيطة لا تتعلم ولا تتطور ولا تعتمد على نفسها لاتخاذ أي قرار بناء على تحليل البيانات الحقيقي، مصطلحات براقة تستخدم لتزيين التقارير الإعلامية لا لخدمة الواقع.

الطريق إلى التقدم الحقيقي

لكي تتحول الرقمنة من صورة متوهمة إلى صناعة حقيقية يجب أن نبدأ من الإنسان لا من التطبيق، فيتم تعليم الإنسان وبناؤه وتوطين التكنولوجيا للقفز من نقطة المستهلك لتلك التكنولوجيا إلى الصانع لها، وبناء الوعي المؤسسي قبل بناء النظام البرمجي. التكنولوجيا الحقيقية ليست ما نراه على الشاشة، بل ما يحدث في العقول التي تدير هذه الشاشات، فإن بناء دولة رقمية لا يبدأ من الحاسوب بل من العقل الذي يحسن استخدامه.

فالتقدم التكنولوجي لا يقاس بعدد التطبيقات بل بقدرتنا على تحويل المعلومة إلى قرار، والقرار إلى تغيير فاعل وحقيقي على أرض الواقع نلمسه في اقتصادنا وتطورنا، ولذلك فإن أخطر ما يواجهنا ليس غياب التكنولوجيا، بل وهم امتلاكها، فالنجاح الحقيقي هو أن نحسن استخدام التكنولوجيا لا أن نتزين بها

#مجلة_نهر_الأمل

اظهر المزيد
صورة wafaa alagaa

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى