الدكتور عادل اليماني يكتب: وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا
الدكتور عادل اليماني يكتب: وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا
بقلم: د.عادل اليماني
رأيتُهم، في مقطع ڤيديو متداول، رصدته كاميرات المسجد، يصلون خلف الإمام، فسقط الأخير فجأةً، مغشياً عليه، أثناء صلاته بهم، ربما فاجأته أزمة قلبية، فتقدم أحدهم، لا ليُسعفه، بل ليُكمل الصلاة! يا إلهي، أهذا كل ما يشغل المصلين الآن؟!
الذين ربما مات إمامهم، وربما أيضاً كان بإمكانهم إنقاذه، لكنهم لم يفعلوا، إذ ملأت التقوي قلوبهم، وخافوا علي ضياع ثواب الجماعة! فهي تعدل ثواب صلاة المرء منفرداً، بسبع وعشرين درجة! أما هذا الذي يموت بين أيديهم، فيقيناً سنري ما يمكن فعله لاحقاً، بعد الفروغ من الصلاة! فقطع الصلاة مستحيل!
تمنيتُ لو لم أرَ هذا الڤيديو المُحزن المُخزي ، تمنيتُ لو كان مفبركاً.
هؤلاء المصلون! لم يفقهوا شيئاً عن الصلاة! بل عن الدين نفسه! أخذوا ظاهره، بلا عقل، وألقوا جوهره، بلا ضمير، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.. كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ، لا فكر، لا قلب، لا رحمة، لا حنان!
قد يسأل بعضهم، هل يُدرج (الحَنان) في قائمة أولويات الدين واهتماماته؟
دينٌ يسعي نحو العدل والصدق والأمانة، هل يُلقي بالاً بقيمة إنسانية، بسيطة وهينة، كالحَنان؟
والجواب، إنما الدين نفسه حنان، والحياة لا تستقيم إلا بالحنان، وهو سر أسرار السعادة علي الأرض، والسبيل للجنة الموعودة، والفوز المنشود.
السموات والأرض والجبال، والنجوم والكواكب، والبحار والمحيطات، لا يستقرون جميعاً، إلا بمنظومة علم، تحركها الدقة والإبداع، وكذلك الحنان! فبدونه، قد تخرج الأشياء عن مساراتها، وقد يكون الهلاك.
البيوت، وكما تخربها القسوة، يعمرها الحنان، والألم يطيب بالحنان، والبعيد يقترب بالحنان، والصعب يسهل بالحنان، فالحنان حتماً يبلسم الجراح، ويبعث دوماً علي الارتياح.
ربي وربكم، جلت قدرته، هو الحنَّان، بمعني عظيم الحنان، شديد الرحمة.
والحنان كلمة ما أجمل معناها، وما أرق مغزاها، كلمة طيبة الوقع، عظيمة النفع، شجرةٌ ما أورفَ ظلالَها، وما أعمقَ جذورها.
الحنان إلهام الشعراء، وإبداع العازفين، وشجن المبدعين.
هل تعرفون أبا عُمَيرٍ؟
طفلٌ لا يتجاوز عُمرُه ثلاث سنوات، وهو أخٌ للصحابي الجليل، أنس بن مالك، رضي الله عنه.
زار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صاحبه أنساً في بيته، فرأى الطفل الصغير جالساً على الأرض، يحتضنُ عصفوراً صغيراً مريضاً، والدموع تنهمر من عينيه.
فاحتضنَه رسول الله (ص) وحنا عليه، كعادته مع الناسِ أجمعين، وقال له:
يا أبا عُمَيرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ والنُّغَيرُ تَصغيرُ النُّغَرِ، وهو طائِر صَغير كالعُصفور، فتبسم الطفل الباكي، إذ لقبَه رسول الله (ص) كما يُلقَب الكبار، احتراماً وتقديراً، فقال له: أبا عُمَيرٍ! ولأنَّ رسول الله (ص) هو الوحيد الذي سأله عن عصفوره، فيما لم يسألْ عنه أحدٌ غيرُه قط
ويكرر رسول الله (ص) الزيارة، يفتح أنس الباب، يدخل (ص) مُسرعاً، ويتوجه مباشرةً إلى أبي عُمَيرٍ، ويسأله بعطفٍ وحنوٍ: يا أبا عُمَيرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ ؟ فيرمى أبو عُمَيرٍ بنفسه في حِضن رسول الله (ص) وهو يبكي ويقول: لقد ماتَ النُّغَيْرُ، لقد ماتَ.
فظلَ (ص) يُداعبه ويلاطفه، وقضي معه ساعاتٍ طويلةً، ولم يتركه (ص) حتي هدأتْ نفسه.
هل كان رسول الله، خاتمُ النبيين، وإمامُ المرسلين، وقائدُ الأمة وجيوشها (ص) يمتلك رفاهة الوقت، ليُضيعَ قدراً كبيراً منه، مع طفل صغير، ومن أجل عصفور؟ مفخماً، ومداعباً، وحانياً، ومؤنساً!!
هي أخلاق النبي (ص) من ناحية، ورسالةُ الدين الحقيقيةُ، من ناحية أُخري، وهو المعني الأسمي للحنان.
كان نبينا (ص) أكثر البشر حناناً، وسلوا زوجاته، أمهات المؤمنين، سلوا أصحابه الأخيار، والتابعين الأطهار، سلوا عنه أهل الذمة، بل سلوا الشجر، سلوا الجمل الشاكي، سلوا جذع النخلة الباكي، سلوا ناقة هجرته، وعنكبوت غاره، أقول لكم، بل سلوا أعدائه: اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ.. تأملتُ الدنيا كلَها، بما فيها، وبِمَنْ فيها، فلم أجدْ أعظمَ من الحنان، ووجهه الآخر، وهو الرحمة: فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
و رحمةُ ربِك وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، والمؤمنون رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، ونبيُهم رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ في كِتَابِهِ، فَهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي.
صدقتَ، نبيَ الإنسانية، يا مَنْ قال فيكَ ربُك: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، يا مَنْ قُلتَ عن نفسِك: إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ.
وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ.
هَذانِ في الدُنيا هُما الرُحَماءُ.
قالَ (ص) في المرأةِ مع الرضيعِ، ألْصَقَتْهُ ببَطْنِهَا وأَرْضَعَتْهُ: أتُرَوْنَ هذِه طَارِحَةً ولَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا، وهي تَقْدِرُ علَى ألَّا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَا.
وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا.
ما هذا الجمال! الحنان، منك يا الله، وتُقدمُه علي الزكاة، وعن التقوي نفسها، ثم تُعقب ذلك كله، ببر الوالدين: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا.
طبعاً مستحيل أن يكون جَبَّارًا عَصِيًّا، إذ مُنِحَ الحنانَ أولاً: وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا.
موسى عليه السلامُ، لما دفنَ أخاه هارونَ، عليه السلامُ، ذكرَ مفارقتَه له، وظُلمةَ القبرِ، فأدركتْه الشفقةُ، حناناً علي أخيه، فبكى، فأوحى اللهُ تعالى إليه: ياموسى: لو أذنتُ لأهلِ القبورِ أن يُخبروكَ بلُطفي بهم، لأخبروك.
ياموسى: لم أنسْهم على ظاهرِ الأرضِ، أحياءَ مرزوقين، أفأنساهم في باطنِ الأرض مقبورين!
ياموسى: إذا ماتَ العبدُ، لم أنظرْ إلى كثرةِ معاصيه، ولكنني أنظرُ إلى قلةِ حيلتِه.
أوليس هذا عطفاً، أوليست هذه رحمة، أوليس ذلك حناناً من الله علي عباده.
إذن، إذا رأيتم أحدهم، يصوم النهار ويقوم الليل، ويتلو كتاب الله، آناء الليل وأطراف النهار، ورأيتموه غليظ القلب، فاقد الحنان، فأخبروه: لا تُجهد نفسك بهذه العبادات كلها! فليس لك منها إلا التعب، وهي مردودة عليكَ! فالله طيب حنون، لا يقبل إلا الطيب، فما خلقنا سبحانه، غلاظ النفوس، قساة القلوب، إنما خلقنا رحماء، لنحنو علي البشر والدواب والشجر، وكل مَا خَلَقَ ربي وَذَرَأَ.
كان لأرملة، ابن وحيد، عاشت من أجله، وتفانت في رعايته وتعليمه، فلما قوي ساعده، واشتد عوده، قرر أن يتركها ويسافر، قالت له أتتركني وحيدة، يا ولدي؟! فقال لها: سامحيني يا أمي، ولا تقفي في طريق سعادتي ومستقبلي!
سافر الابن ، وكانت تراسله دوماً؛ لتطمئن عليه، والابن لا يرد عليها !ففكرت في حيلة ذكية، وأرسلت إليه خطاباً، تقول فيه: ولدي الحبيب، لقد ورثتُ عن عمي قطعة أرض كبيرة ، وأصبح عندي الكثير من المال، فإذا احتجت لشئ، أرسل لي فوراً، بكل ما تريده، وسيكون عندك، في أسرع وقت.
وبالفعل نجحت الخطة!
فكان يرسل لها خطاباً، كل أسبوع، يطلب منها نقوداً، وكانت لا ترد له طلباً، والغريب في الأمر، أنها لم تكن حزينة، من موقف ابنها، بل كانت تلتمس له الأعذار، وكان الأهم عندها، أنها الآن سعيدة؛ لأنه أصبح يخاطبها! على الرغم من كونه يفعل ذلك، فقط من أجل مصلحته، وليس حباً فيها، أو عطفاً عليها، ولكنها لم تعبأ بهذه الأمور، وتلك الحسابات!
وبعد ثلاثة أشهر، انقطعت خطابات الأم، وانقطع كذلك ردها علي خطاباته، فهاتف الابن أحد جيرانها، فاخبروه أنها ماتت، فأسرع إليها، لا حزناً عليها، بل ربما ليرث ما تبقى لديها من مال.
فإذا به يجد بيتها يسكنه رجل غريب، وعندما سأله مَنْ أنتَ؟ قال له: لقد باعت أمك ليَّ هذا المنزل، منذُ فترة.
ويخبره جيران أمه بالقصة كاملةً، إذ ساءت حالتها، واشتد مرضها، في أيامها الاخيرة، خاصةً بعدما باعت جميع مقتنياتها، وأثاث منزلها، ثم باعت منزلها نفسه! ولم تكن تهتم بصحتها، ولا تداوي مرضها، ولا أحد يعلم، أين انفقت كل هذه الأموال، التي حصلت عليها، مقابل ما باعته؟!
عندها، انهار الشاب بكاءً وحزناً، ألماً وحسرةً، حُبست أنفاسه، وانقطع صوته، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت، ولم يعد بوسعه أن يقول شيئاً! أي شئٍ!
عاشت الأم وماتت، وأهملت عافيتها، وباعت مالديها، باحثةً عن شئ واحد، هو الحنان، والآن يبحث ابنها عن هذا الحنان نفسه، فلا يجده، ولن يجده، وأَنَّى لَه هَذَا؟!
أيها الناس، تخلقوا بأخلاق الله، ولا تفقدوا إنسانيتكم، وعليكم بالرحمة والحنان، مع جميع الخلائق، وكل البشر، وبخاصة الأحبة، فالفقد موجعٌ، الفقد مؤلمٌ، الفقد مرٌ، والندم لا يرد ظلماً، ولا يعيد غائباً، وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا.









