الزمن المسروق: كيف تختلس وسائل التواصل الاجتماعي أعمارنا؟
قراءة تحليلية في آليات التلاعب بالانتباه وتشويه الإدراك الزمني
الزمن المسروق: كيف تختلس وسائل التواصل الاجتماعي أعمارنا؟
قراءة تحليلية في آليات التلاعب بالانتباه وتشويه الإدراك الزمني
بقلم : دكتور/ محمد رمضان عيد محمود جمعة غريب
دكتور في القانون الجنائي

كما كتب الفيلسوف الرواقي “سينيكا” منذ ما يقرب من ألفي عام:
“الحياة قصيرة وقلقة لأولئك الذين ينسون الماضي، ويتجاهلون الحاضر، ويخشون المستقبل.”
وكأن كلماته كانت نبوءة بعصرنا الرقمي، حيث يفقد الإنسان صلته بالزمن، لا لأن الوقت شحيح، بل لأن الانتباه مبعثر، والذاكرة مشوشة، والحضور الذهني مُختلس…
في هذا المقال، نحاول سبر أغوار هذا الاختلاس الزمني، ونفكك أدواته، لنسترد من بين أطراف الشاشات شيئًا من أعمارنا المنهوبة.
أولًا: خيانة الإحساس بالزمن
تشير الدراسات النفسية الحديثة إلى أن إدراك الزمن لا يقوم على مروره الفعلي، بل على طريقة تذكره. فكلما كانت لحظاتنا غنية ومتنوعة، ازداد شعورنا بأن الزمن ممتد ومُعاش. أما في عالم السوشيال ميديا، حيث التمرير المتواصل والمحتوى المتشابه، تصبح التجربة الحياتية أقرب إلى “المحو الناعم” للذاكرة.
وهنا تبرز خطورة تصميمات مثل “التمرير اللانهائي” (infinite scroll)، التي تحوّل المستخدم إلى كائن يطفو داخل محتوى لا ينتهي، دون توقف، ودون لحظة وعي بذاته أو بالزمن.
ثانيًا: من الكازينو إلى الخوارزمية – هندسة الإدمان
لم يكن تصميم هذه المنصات عشوائيًا. فكما صُمّمت الكازينوهات في الماضي لعزل الروّاد عن إدراك الوقت، تستنسخ منصات التواصل ذات الفكرة بأساليب تقنية أكثر دقة.
مسارات التفاعل المنحنية، التحديث التلقائي، إشعارات لا تهدأ… كلها أدوات لإبقاء العقل في حالة ترقّب وانشغال دائم.
يحدث هذا في سياق وهمي من “المتعة اللحظية”، التي لا تُنتج أثرًا عاطفيًّا أو معرفيًّا حقيقيًّا، بل تُفضي إلى تفريغ التجربة الإنسانية من معناها، وجعل الزمن يمرّ دون أن يُعاش.
ثالثًا: هل نحتاج إلى تشريع لحماية الزمن؟
إذا كانت التشريعات الحديثة قد لحقت بالحق في الخصوصية الرقمية، والبيانات، والانتباه، فهل آن الأوان للحديث عن الحق في الزمن الشخصي؟
بلغة قانونية دقيقة: ألا يجوز وصف هذا التلاعب التقني بأنه شكل من أشكال الإضرار المعنوي المستتر، الذي يستدعي مساءلة أو تدخلًا تنظيميًا؟
إن إعادة تصنيف هذا السلوك في ضوء قواعد المسؤولية المدنية أو حتى الجنائية تمثل خطوة أولى نحو مساءلة المنصات الرقمية عن ما قد يُنتج من إيذاء نفسي طويل الأمد، أو تشويه في إدراك الواقع.
رابعًا: نحو يقظة زمنية
ليس المطلوب الانفصال عن التكنولوجيا، بل استرداد السيادة عليها.
إدراك أن كل دقيقة تمرّ في حالة من الشرود أو الإدمان الرقمي، هي لحظة تُخصم من أعمارنا دون مقابل.
لذا فإن التحدي الحقيقي ليس في الهروب من المنصة، بل في العودة إلى الذات، وتفعيل “الحد الأدنى من السيادة على الزمن الشخصي” بوصفه خطوة باتجاه الحرية النفسية والمعرفية.
خاتمة: من أجل ذاكرة تستحق أن تُروى
وقد صدق سينيكا حين قال:
“الحياة قصيرة وقلقة لأولئك الذين ينسون الماضي، ويتجاهلون الحاضر، ويخشون المستقبل.”
إن من يعيش في تدفق لا يتوقف من الفيديوهات والقصص والمقاطع، لا يملك ذاكرة حقيقية، بل مجرد تتابع مشوّش من الصور العابرة.
وهكذا، تُختلس الحياة لا فقط من ساعاتها، بل من معناها.
فمن يُفرّط في زمنه، يُفرّط في ذاكرته.
ومن يُسلّم انتباهه طواعية، قد لا يسترده إلا بثمنٍ من العمر لا يُعوض









