فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ ( كَرَامَتُهم ) ذَهَبُوا
فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ ( كَرَامَتُهم ) ذَهَبُوا ..
الدكتور عادل اليماني يكتُب :
من الطُرقِ التي اتّبعتْها العربُ قديماً، للتفرقةِ بينَ الخيلِ الأصيلِ، والخيلِ الهجينِ، التجويعُ والتعطيشُ، حتى اذا اشتدَ حِرمانُها، أوسعوها ضرباً ومهانةً ، بلا مبررٍ! ثم يُقدمونَ إليها الطعامَ والشرابَ، وهُنا ينقسمُ الفريقُ الواحدُ، فريقين، فريقٍ يُهرولُ، غيرَ أبهٍ، بما حدثَ له ، هو فقط مدفوعٌ بنداءِ البطنِ! وفريقٍ يمتنعُ عن الإقدامِ نهائياً، رغمَ الألمِ والحرمانِ، حتي لا يُضيفَ جُرحاً إلي جُرحِه، اسمُه الندمُ علي الخضوعِ لإرادةِ اللئامِ! فلا تأكلُ ولا تشربُ، من نفسِ اليدِ التي ضربتْها وأهانتْها، ولسانُ حالِهم: الموتُ آتٍ لا محالةَ، فليأتِ إذنْ ونحنُ شامخون.
وهكذا تماماً هم البشرُ: صنفٌ لا يُبالي، يبيعُ كُلَّ شئٍّ في أسواقِ الدنيا، حتي الكرامةَ يبيعُها أيضاً! نَظيرَ مُتعٍ فانيةٍ، حتماً ستزولُ عنهم، أو سيزولون عنها، وفي النهايةِ، هم عند َاللهِ محاسبون.
وصنفٌ بضاعتُه كرامتُه، وتاريخُه شرفُه، وهما ليسا للبيعِ مُطلقاً، مهما كانتِ المغرياتُ، وهم أيضاً عندَ اللهِ محاسبون! وشتانَ بينَ حسابِ الأولِ والثانيِّ، الأول: يَٰلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ..
والثاني: هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَٰبِيَهْ..
قالَها عنترةُ ابنُ شدادٍ:
هَلّا سَأَلتِ الخَيلَ يا اِبنَةَ مالِكٍ
إِنْ كُنتِ جاهِلَةً بِما لَم تَعلَمي..
يُخبِركِ مَن شَهِدَ الوَقيعَةَ أَنَّني
أَغشى الوَغى وَأَعِفُّ عِندَ المَغنَمِ..
الوَغي (المعركة) والمعني: أُحاربُ وأُقاتلُ، ولا انتظرُ الغنيمةَ، ولا أقفُ في طابورِ المكاسبِ مع المنتفعين! وهل تُسئَلُ الخيلُ؟! بلاغةٌ في الأسلوبِ، ورشاقةٌ في المعني، وتأكيدٌ كذلك علي صدقِ الخيلِ وأصالتِها.
هَذَا عنترةُ، وقد خاضَ الحروبَ العديدةَ، وحققَ الانتصاراتِ العظيمةَ، يُعلنُ أنَّ أعظمَ انتصاراتِه، حفاظُه علي عفةِ نفسِه وكرامتِه وكبريائِه، فما بالكم بمَنْ يبحثُ عن غنيمةٍ بلا معركةٍ ! لا تتعجبْ، فما أكثرَهم، ففي الماضي، كانَ الناسُ يُراءون بما يعملون، وصاروا اليومَ يراءون بما لا يعملون!
عزةُ النفسِ ، هي الثروةُ الأعظمُ، التي تُشعِرُ مالكَها بالاكتفاءِ، رغمَ الحاجةِ.
أيُّها الإنسانُ، خُلقتَ حُراً كريماً، خُلقتَ لنفسِك أولاً، لا للعابرين ،ولا سعادةَ لك، بلا كرامةٍ، وأنتَ لا تَرِثُ هَذِهِ الكرامةَ، بل تصنعُها بنفسِك، فلا تُجبرْ نفسَك علي أحدٍ، ولا تُجبرْ أحداً عليك.
في القرآنِ الكريم تأكيدٌ وإقرارٌ، بأنَّ الإيمانَ مربوطٌ بالعزةِ، والذلَ مربوطٌ بالنفاقِ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ..
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا..
يرفضُ اللهُ حُجتَهم، بأنَّهم مُسْتَضْعَفونَ، وكأنَّه سُبحانَه يقولُ لهم، لماذا عشتَ هكذا، ذليلاً خانعاً خاضعاً؟! والأرضُ كُلُّها ليَّ، لِمَ لم تغادرْ وتهاجرْ، وتتركِ المكانَ والأشخاصَ؟ وقد رأيتَهم يُهدرون كرامتَك!
اعتزلْ ما يؤذيك، قالَها عمرُ، رضي اللهُ عنه وأرضاه، وقالَ مُعلمُه ومُعلمُنا، صلي اللهُ عليه وسلمَ: لا ينبغي للمؤمنِ أن يُذِلَّ نفسَه، قالوا: وكيف يُذِلُّ نفسَه؟! قال: يتعرضُ من البلاءِ لما لا يُطِيقُ..
الكَرَامَةُ: أمرٌ خارقٌ للعادةِ، وجمعُه كراماتٌ.
والكَرَامَةُ: عزةُ النفسِ، ولا جمعَ لها!
إنَّ ثمنَ الكرامةِ فادحٌ، لكنَّ ثمنَ الذُلِ أفدحُ، ولذا، عشْ كفيفاً مرفوعَ الرأسِ بكرامةٍ،خيرٌ لكَ من أنْ تعيشَ مُبصراً مكسورَ العينِ..