الاخبار

نشر أسرار التحقيق عبر الإنترنت:جريمة متعددة الأركان ومسؤولية جنائية لا تسقط بالتقنية

نشر أسرار التحقيق عبر الإنترنت: جريمة متعددة الأركان ومسؤولية جنائية لا تسقط بالتقنية

 

بقلم : دكتور/ محمد رمضان عيد محمود جمعة غريب
– دكتور في القانون الجنائي

 

في عصر طغت فيه وسائل التواصل الاجتماعي على كافة جوانب الحياة، لم تعد منصات النشر مقصورة على الصحف وشاشات التلفاز، بل بات كل هاتف ذكي وسيلة إعلامية قد تفضي إلى جريمة مكتملة الأركان، خاصة حين تمس بقدسية التحقيقات الجنائية وسرّيتها.
إن إفشاء أسرار التحقيقات، أو تداول صور ومعلومات تخص قضايا لا تزال قيد التحقيق، أو الترويج للشائعات والأكاذيب بشأنها، يمثل اعتداءً سافرًا على أسس العدالة الجنائية، ويهدد مبدأين جوهريين نص عليهما الدستور والقانون: قرينة البراءة وحرمة الحياة الخاصة.
أولًا: سرية التحقيق… حماية للعدالة لا تقييدٌ للشفافية
نصت المادة 75 من قانون الإجراءات الجنائية على أن التحقيقات وما تسفر عنه من نتائج تُعد من الأسرار المحظور إفشاؤها. ولا يجوز لأي من المشاركين فيها – سواء من رجال النيابة أو الشرطة أو الكتبة أو الخبراء – أن يكشفوا عنها للغير. هذا الحظر لا يهدف إلى التعتيم، بل إلى حماية:
حقوق المتهم بصفته بريئًا حتى تثبت إدانته.
مجريات التحقيق من العبث أو التأثير.
خصوصية المجني عليه، خصوصًا في الجرائم ذات الطبيعة الجنسية أو الأخلاقية.
ولذلك، جاءت المادة 113 مكرر من قانون الإجراءات الجنائية لتحظر صراحةً الكشف عن بيانات المجني عليه في جرائم الاغتصاب وهتك العرض والتحرش، حمايةً لكرامته الإنسانية.
ثانيًا: إفشاء المعلومات جريمة… والعقوبة متعددة الأدوات
يتدرج التأثيم القانوني لإفشاء أسرار التحقيق ونشر الأكاذيب والشائعات حوله في عدة نصوص قانونية، أبرزها:
المادة 310 من قانون العقوبات: تعاقب من أفشى أسرارًا علم بها بحكم وظيفته بالحبس حتى 6 أشهر أو غرامة لا تتجاوز 500 جنيه.
المادة 193 عقوبات: تعاقب من نشر أخبارًا بشأن تحقيق جنائي حُظر النشر عنه بالحبس حتى 6 أشهر أو بغرامة تصل إلى 10,000 جنيه.
المادتان 302 و306 عقوبات: تطال من يستخدم النشر للتشهير أو القذف أو السب، خاصة إن مسّ سمعة أطراف القضية دون وجه حق.
المادة 187 عقوبات: تجرّم محاولة التأثير في القضاء أو مجرى العدالة بنشر أخبار قد تؤثر على المحكمة أو الشهود، وتعتبر هذه الجريمة من أخطر أشكال التدخل في سير العدالة.
ثالثًا: التقنية لا تحصّن الجريمة… بل تُعقّدها
مع صدور قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، أصبح من الممكن ملاحقة من ينشر أسرار التحقيقات أو صورًا أو أخبارًا تخص الحياة الخاصة لأطراف القضية عبر الإنترنت، حتى لو لم يكن من العاملين بالجهاز القضائي.
فوفقًا للمادة 25 من القانون، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة من 50 ألفًا إلى 100 ألف جنيه، أو بإحدى العقوبتين، كل من اعتدى على المبادئ أو القيم الأسرية أو حرمة الحياة الخاصة، بنشر صور أو أخبار أو تسجيلات دون رضا أصحابها.
وهنا يجب التنبيه إلى أن نشر معلومات – حتى لو كانت صحيحة – عن متهم أو مجني عليه أو شاهد، دون سند قانوني أو إذن قضائي، يعد جريمة مكتملة الأركان إذا أدت إلى المساس بالكرامة أو السمعة أو الأمن الشخصي.
رابعًا: لا حصانة للصحفي أو الناشر أمام هذه الجرائم
رغم أن الصحافة تعمل وفق قانون منظم (قانون الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018)، إلا أن القانون ذاته نص على حدود صارمة للنشر في القضايا قيد التحقيق. وتلتزم المؤسسات الإعلامية بعدم نشر ما قد يؤثر على التحقيق أو المحاكمة، وإلا تعرّض القائم بالنشر للمساءلة الجنائية والتأديبية.
وينسحب ذات الأمر على المستخدم العادي الذي يروّج أو يعيد نشر هذه المعلومات، إذ لا يشترط في الجريمة أن يكون الناشر صحفيًا.
خامسًا: مسؤولية مجتمعية قبل أن تكون قانونية
تكمن خطورة هذه الجرائم ليس فقط في أثرها القانوني، بل في أثرها النفسي والاجتماعي: فقد تؤدي إلى تشويه سمعة أبرياء، أو ترهيب شهود، أو إجهاض محاكمات عادلة. وهنا يأتي دور التوعية المجتمعية في إدراك أن نشر الأسرار لا يعكس حرية رأي، بل قد يكون شراكة في جريمة.
خاتمة:
إن احترام سرية التحقيقات ليس ترفًا إجرائيًا، بل حصانة للعدالة ودرع يحمي الأطراف من العبث والفوضى. والتهاون في هذا الجانب – خاصة عبر الفضاء الرقمي – يفتح بابًا واسعًا للتشهير والتشويه والتأثير على المحاكم، وهو ما يجب أن يتصدى له القانون، والمجتمع، بمسؤولية ويقظة

#التوعية_القانون_لجنائي
#مجلة_نهر_الأمل

 

 

اظهر المزيد
صورة wafaa alagaa

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى