مقالات

هل للقانوني “تاريخ صلاحية”؟

هل للقانوني “تاريخ صلاحية”؟

بقلم: د. محمد رمضان عيد محمود جمعة غريب
باحث في كلية الحقوق

د. محمد رمضان عيد محمود جمعة غريب
د. محمد رمضان عيد محمود جمعة غريب

القوانين تهرم وتنتهي، والمستجدات لا تنقضي …

إنَّ السكين مهما كانت حادةً، تحتاج من حينٍ لآخر إلى صقلٍ يُعيد بريقها الساطع وعملها القاطع …

قد يتساءل البعض: هل هناك صلاحية للتأهيل الأكاديمي الذي يحمله القانوني بحكم أن المعلومات القانونية التي درسها هي قواعد لها طابع الاستدامة بخلاف العلوم التجريبية التي تتطور باستمرار؟

وللإجابة عن ذلك، يحسن بنا أن تعلم أن القوانين كالبشر تهرم وتشيخ، لذا فإنها عرضة للتغيير والتطوير، وهذا لا يُغير القواعد الأصيلة للعدالة، وإنما تدل على أن القانون من العلوم الاجتماعية التي تتواكب مع أحوال البشر، وما تحدثه التعاملات والأحوال من ظروف تتطلب تشريعاً جديداً وتعديلاً على قانون سار.

فالجامعة لا تمنح العلم، وإنما تمنح المتعلم القدرة على اكتسابه، والأدوات التي بموجبها يفك شفرة مصادر التعلم، ومن ثم فإن الممارسة هي التي تصقل مهارات ومعلومات القانوني، فليست هناك دروس تعلم الخبرة، أو تصف أسلوب تعاملك مع الآخرين بقدر ما تعلمك ممارستك للحياة ذلك. ومن هنا برزت أهمية التعلم المستمر كأحد مقومات بقاء القانوني على قيد الحياة العلمية والعملية، وإلا أصبحت شهادته مجرد لوحة على الجدار تحكي تاريخاً لا أثر له على الواقع.

وتعلمنا الحياة أن التفوق الدراسي أو التعثر فيه ليس دليلاً على الفشل أو النجاح المهني، وإنما ما يقوم به الشخص بعد تخرجه يُحدد مستواه في التفوق بوضع اسمه في المكان الذي يليق بجهوده، فالدنيا كيمياء العطاء ينالها المجد الحريص ويخسرها

الكسول الحامل: فليس الحصول على فرصة للعمل إلا تذكرة مفتوحة للقانوني، ليدخل فيها مجالات حقيقية تصقل ما لديه من معلومات وقدرات. فالتعليم المستمر هو رحلة مستمرة لتغذية وصقل المعلومات والمهارات وتجديدها.

وبالرغم من أن مادة القانون تجد خريجها من الحصول على فرص عمل بعيدة عن تخصصه، فإن اكتساب مهارات وشهادات مهنية يفتح آفاقاً للقانوني. والتاريخ سجل حافل بقانونيين قادوا دُولاً ووزارات وشركات ومجالات لم يكن أحد يتوقعها، ولم تكن شهادة القانون هي مفتاح ذلك، بل كان الحرص على التميز هو الدافع الرئيسي، ويدور في خلد القارئ عدد من الشخصيات المصرية والدولية -سواء كانت على قيد الحياة أم فارقتها- كانوا قانونيين. لكنهم صنعوا مكانتهم بتميزهم في صقل معلوماتهم ومهاراتهم.

إن الفرص التي أمام القانوني أكثر من أن يحصيها: إذ يتمتع دارس القانون بمواصفات تمكنه من أداء مهام مختلفة إذا صقل خبرته فيها: حيث يُمكنه القيام بأعمال التحقيق والتفتيش والقاضي والمستشار، وأمين السر، والضابط ، وتراكم خبرة العمل يُؤهله لدور قيادي لفريق صغير أو كبير بالإشراف على إدارات أو منظمة أو جهات، كما يمنحه القدرة على تمثيل الغير في مجالس الإدارات أو السفارات أو المهام الدبلوماسية أو التجارية وغيرها.

ووسائل وطرق التعليم المستمر مختلفة ومتنوعة ليست قصراً على حضور الدورات التدريبية، بل كل ما هو وسيلة لاكتساب معرفة أو مهارة، فلا يمضي يوم إلا ويزداد الشخص معرفة أو مهارة مهما صَغُر أمرها. فقد ترى طالب قانون تدرب على الإلقاء في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أصبحت لديه ملكة أن يكون إعلامياً.

ومن ثم يُدَرِّب نفسه على أسلوب الكتابة والتأليف، وآخر يجد نفسه في الأبحاث المتخصصة، أو كتابة ما يجده مفيداً في فن حتى يُصبح مرجعاً فيه للآخرين، ثم يجد في نفسه الكفاءة لتقديم دورة بثقة في معلوماته، والقدرة على إيصالها باحتراف، فمن تقلد منصبا لم تكن الشهادة السلم لذلك، لكنها بلا شك كانت إحدى الدرجات الأساسية التي تفتقر لدرجات أخرى حتى يكتمل الصعود للسلم المهني.

ويشعر طالب القانون بنشوة التخرج التي تصنع منه شخصاً يعلم شفرة العدالة التي يجهلها الكثير، فيظن بفوقية أنه ليس محتاجاً لمزيد من التعلم، أو أنه مفتقر لتعلم مهارات العمل وفنون التعامل مع الحياة، فتجد البعض منهم يظن أنه عندما يُناقش غير المختص في موضوع قانوني أن فهمه للقانون هو الأصح والأدق، في حين أنَّ من مارس الحياة يستطيع قراءة النصوص القانونية بلغة الواقع وليس بلغة الدارس وتكون لديه قدرة أعلى على تحليل النصوص ومضاهاتها بالواقع فتظهر له جوانب تَخْفى على القانوني ما لم يكن القانوني مطلعاً على طبيعة الموضوع نطاق تطبيق القانون أو نصوص العقود والاتفاقيات.

ومن هنا برزت أهمية تعلم القانوني لنطاق تطبيق القانون الذي يُمارس مجاله، فعلى سبيل المثال: من يُمارس الاستشارات في المجال المالي يجب أن يكون مطلعاً وعارفاً بالمصطلحات وبطبيعة العمل المالي وإجراءاته، فهناك فرق بين تعلم النصوص التي تُطبق على الواقع، وتعلم حقيقة الواقع، فكلاهما أساس للفهم الحكيم والتطبيق السليم، وهما مَا يَصْنَع تميز القانوني الذي قد يَسْتَمِيلُه نطاق ما يمارس فيه، فيتفوق حتى على أصحابه المختصين في إدارة ذلك الأمر.

وفي المقابل فإن من يركن إلى معلوماته، أو ما لديه من مهارات فقد أعطى لحياته العلمية والمهنية شهادة وفاة مبكرة، فلا يُقبل ممن درس نظام العمل.

على سبيل المثال:
منذ عشرين عاماً. أن يكون واثقاً من مشورته للآخرين ما لم يكن عالماً بالمُستجدات التشريعية والإجرائية، ولن يقبل الجمهور التعامل مع من يستخدم الآلة الطابعة التي كان يستخدمها قبل أربعين عاماً، ولم يتدرب على استخدام الحاسب الآلي وإرسال البريد الالكتروني على سبيل المثال.

ويوجد مثال ًيضا عظيم عن المحامي:
المحامي قد ترك أروقة الدراسة إلا أنه لا يزال تلميذاً مستمر التعليم، فالتعليم هو وقود الخبرة والمعرفة، لاسيما أن تكلفة عدم تحديث المعلومات هو الاستبعاد من المنافسة. فالخطأ الذي استبعد شركة نوكيا عن المنافسة في سوق الهواتف المحمولة هو أن العالم تغير بسرعة، ومنافسوهم كانوا أكثر تأقلماً منهم مع المتغيرات. فليس بالضرورة أن تفعل خطأً لتخسر المنافسة، بل إن الركون على المعلومات السابقة دون تحديثها كفيل بإبعاد المحامي عن سوق المهنة. من غير العسير أن يصبح المرء محامياً، لكن من غير اليسير أن يكون محامياً جيداً، فخبرة المحامي ومهاراته تصقل تدريجاً من خلال مسيرته المهنية،

ودائما انا بقول:
«إنِّي رأيتُ أَنَّه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قالَ فِي غَدِهِ: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زيدَ كذا لكان يُستَحسَنُ، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل. هذا مِنْ أَعظَمِ العِبَرِ، وهو دليلٌ على استيلاء النَّقْصِ عَلَى جملة البَشَرِ».

والأمثلة أكثر من أن تُحصى، والقارئ يُدرك أنه في رحلة علمية وعملية مستمرة مع الحياة، لكن القانوني يُدرك أن رحلته تحتاج إلى عناية خاصة.

#مجلة_نهر_الأمل

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى