مقالات

الجرف تكتب: قوة الصمت في مواجهة الأذى

الجرف تكتب: قوة الصمت في مواجهة الأذى

بقلم: د. أسماء محمد الجرف
عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف

في رحاب شهر رمضان المبارك، شهر الصيام والقيام، تتجلى لنا حكمة الصمت كقيمة روحية عظيمة.

ففي هذا الشهر الفضيل، حيث تتفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النيران، يجد المؤمن نفسه مدعوًا إلى تهذيب النفس وتزكيتها، والتحلي بأخلاق الصبر والتسامح.

في خضمّ الحياة المتقلبة وصراعاتها اليومية، يقف الإنسان المؤمن أمام تحديات قد تثير فيه مشاعر الغضب والاستفزاز.

فهل يستحق كل فعل إساءة الرد؟ وهل كل قول جارح يستدعي العتاب؟ في هذا السياق، يبرز الصمت كأداة دفاعية أكثر قوة مما يظنه الكثيرون.

إنه ليس علامة على الضعف، بل هو إيمان راسخ وثقة بأن الحق في النهاية لا بد أن يظهر.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134)، ويقول رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم- في حديثه الشريف: “لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصَّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِندَ الْغَضَبِ”.

رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب من يملك نفسه عند الغضب، الحديث رقم 6114،ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب من يملك نفسه عند الغضب، الحديث رقم 2609.

هذه الآية وهذا الحديث يفتحان لنا أبواب الفهم العميق لقوة الصمت، كأداة لتربية النفس على ضبط الانفعالات، والتحلي بالصبر والتسامح في مواجهة الأذى، وهو ما يتجلى بوضوح في مدرسة رمضان.

الصمت ليس تراجعًا أو استسلامًا، بل هو اختيارٌ واعٍ لتجاوز التفاهات وتجنب الانزلاق في براثن الجدال الفارغ.

إنه دربٌ لتحقيق التسامي فوق الأحقاد والمشاحنات، وصقل للنفس كي تتغلب على الضعف البشري. من خلاله، يبني الإنسان حصنًا داخليًا من القوة والسلام، يجعل من نفسه عصيًا على التأثر بالأذى.

في شهر رمضان، شهر التراويح والتهجد، تتجلى لنا فرص عظيمة لتدريب النفس على الصمت والترفع.

ففي هذا الشهر، نجد أنفسنا مدعوين إلى كظم الغيظ والعفو عن الزلات، اقتداءً بسنة النبي الكريم، الذي كان أشد الناس حلمًا وتسامحًا.

في عالمنا المعاصر، نواجه في كل يوم مواقف قد تدفعنا إلى الرد بعنف أو انتقام، سواء كان من زميل يحاول استفزازنا، أو جار يسيء لنا، أو صديق يخيب أملنا. ولكن إذا نظرنا إلى هذه اللحظات من زاوية أعمق، سنكتشف أن قوتنا لا تكمن في ردود الأفعال المتسرعة، بل في القدرة على ضبط النفس واستخدام “قوة الصمت” كسلاح فعال ضد كل أشكال الأذى.

يمنحنا الصمت فرصة للتفكير والتأمل، ويساعدنا على اتخاذ قرارات مدروسة بعناية، حيث يحفظ طاقتنا النفسية ويبعدنا عن دوامة الانتقام والتوتر. بل إنه يحمي القلب من آفات الندم والحسرة، كما يقول الشاعر جلال الدين الرومي: “لا تظن أنك خسرت شيئًا عندما تغاضيت عن خطأ أحدهم، أو قابلت إساءته بالإحسان والصمت، فهذا الخير سيعود إليك يومًا، فإن الحياة تعيد لكل ذي حق حقه”.

دعونا نتبنى “قوة الصمت” كأسلوب حياة، ونجعل من شهر رمضان فرصة سانحة لترسيخ هذه القيمة في نفوسنا. لنستخدم الصمت لدرء الأذى وحماية أنفسنا من سموم العيش، في يقينٍ بأن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين، وأن رمضان هو شهر التجلي الأعظم لقوة الصمت والحلم.

#مجلة_نهر_الأمل

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى