لغز العصر: لماذا يظهر إعلان لشيء تحدثت عنه قبل دقائق؟!
لغز العصر: لماذا يظهر إعلان لشيء تحدثت عنه قبل دقائق؟!
بقلم: د. محمد علي
استشاري التحول الرقمي والأمن السيبراني
لغز يطارد الجميع
الموبايل ده ملبوس… الشركات بقت بتسمع كلامنا! التكنولوجيا دي هتودينا في داهية!
هكذا قال لي صديقي غاضباً ذات يوم. سألته: لماذا كل هذا الانفعال؟ فأجاب بتوتر ، كنت بتكلم من شوية مع صديق لي عن منتج معين… وبمجرد ان فتحت فيسبوك لقيت الإعلان قدامي! ده مش طبيعي… الموبايل أكيد بيسمع.
وللأمانة، لم يكن مبالغاً فيما يقول ومما يخاف. كلنا تقريباً مررنا بتلك اللحظة الغريبة، تتحدث على القهوة مع صديق عن نية شراء تليفون جديد، أو تفكر في السفر، أو سيدة تتحدث عن عطل في غسالتها… دقائق قليلة، ثم يظهر الإعلان امامك على السوشيال ميديا بنفس التفاصيل! فتقف حائراً تشعر فجأة بأن هناك من يتجسس عليك أو أن هناك عيناً رقمية تراقبك… أو أذناً تسمعك، والمشهد تكرر كثيراً لدرجة أن الناس أصبحوا يطرحون السؤال نفسه.
هل الموبايل بيسمعنا؟ وهل التطبيقات بتتجسس على حياتنا فعلاً؟
في هذا المقال سنكشف الحقيقة، ولكن بأسلوب مبسّط، دون مصطلحات معقدة. لأن الحقيقة أخطر وأذكى بكثير مما يظنه الناس… فالأمر ليس مجرد ميكروفون شغال، بل ما يحدث أعمق، وأذكى، وأدق.
الحقيقة الأساسية التي لا يعرفها أغلب الناس هو أن الموبايل لا يحتاج أن يسمعك… لأنه يعرفك بالفعل.
والإنترنت وشركات التكنولوجيا الكبرى لا تحتاج أن تستمع إلى صوتك لكي تعرف ما تفكر فيه بالفعل، فلا ابالغ ان قولت انها تعرف ذلك بالفعل حتى قبل ان تقوم به، وبطرق أكثر تطوراً ودقة من مجرد فتح ميكروفون.
مستخدم الانترنت طوال اليوم يترك بصمته الرقمية التي تحدد شخصيته الرقمية وسلوكة في كل موقف تعرض له، وكانه مسار يرسم نمط تفكيره بدقه متناهية، فيما يفكر وكيف يفعل ذلك وما يحتاج اليه، فاذا شبهنا الانظمة الالكترونية وكانها كائنات حيه دقيقة فما تتركه انت وفقاً لما قمت من سلوك يعتبر بمثابة ما يشبه فتات الخبز الرقمية التي تجمعها الأنظمة الذكية وتحولها إلى صورة كاملة عن شخصيتك التي تحدد بدقه اهتماماتك ومخاوفك، ما تحبه وما تكره، وما تخطط له وما تحتاج اليه، فتات متراكم من السلوكيات الصغيرة التي تراها غير مهمة، لكنها بالنسبة للذكاء الاصطناعي ذهب خالص. فتعرف عنك كل شئ وكانها اصبحت نفسك التي بين جنبيك.
نحن نظن أننا خفيون على المنصات الالكترونية ما لم نكتب أو نبحث عن شيئ… لكن الحقيقة أن كل حركة تقريباً مسجلة في سجلك بشكل دقيق ومحسوب، الفيديو الذي وقفت أمامه زيادة ثانيتين، الموقع الذي فتحته وأغلقته فوراً، الصورة التي قمت بتكبيرها لتراها بوضوح وتفحص، حتى سرعة كتابتك على الكيبورد ووقت نومك واستيقاظك ستصبح جزءاً من بصمتك الرقمية التي تمثل شخصيتك.
هذه الإشارات والدلالات االصغيرة التي لا تثير انتباهك ولن يعتريها عقلك اي انتباه، لكنها بالنسبة للذكاء الاصطناعي هي كنز من المعلومات التي يتم تحليلها في كل جزء من الثانية حتى تصل الانظمة الالكترونية انها تعرفك كما تعرف انت نفسك، بل ظني انها قد تعرف عنك مالم تعرفه انت عن نفسك فهي لا تنسى شئ. ترسم خريطة دقيقة جداً لنفسيتك، اهتماماتك، احتياجاتك، ومخاوفك، وكأن الأنظمة الذكية تحولت إلى نسخة خفية منك… تعرف عنك ما لا تعرفه أنت أحيانًا، وهنا تحدث المفاجأة: ان الإنترنت لا يحتاج أن يعرف ما قلته الآن… لأنه توقعه من قبل ان تقوله.
كيف تتوقع الانظمة والتطبيقات الالكترونية ما يدور في بالك؟
لا يخفى على احد انه ومع زيادة سرعة نمو التكنولوجيا ان التنبؤ أصبح قلب صناعة الإعلانات العالمية، فلم تعد الإعلانات تظهر لك بالطرق التقليدية بناءً على ما قمت بكتابته أو بحثت عنه، بل بناءً على ما توشك أن تفكر فيه.
هل قابلت يوماً بائع ذو خبرة كبيرة وذكي وقد يكون قد اشتريته منه مرة او عدة مرات من قبل فاصبح يعرف عاداتك وذوقك جيداً، حتى أنه يتوقع أنك ستحتاج نظارة شمس جديدة عندما تصبح ساعات خروجك النهارية أطول، أو أنك ستبدأ البحث عن حضّانة أطفال عندما يرى زيادة في زيارة زوجتك لعيادة النساء او وجبه عائلية مكونة مما تحب مما لذا وطاب لمجرد انه علم بانك اصبحت متزوج ورزقت الابناء .
قد يبدو هذا خيالاً لكنه ليس كذلك، لان دور هذا البائع الذكي الشاطر ذو الخبرة اصبح تقوم به خوارزميات الذكاء الاصطناعي، فهي أصبحت تعرفك أكثر مما تعرف نفسك. فهي تقارن سلوكك بسلوك ملايين المستخدمين الآخرين، وتستنتج من التشابهات بينك وبين الاخرين مما قد يتشاركوا في بعض الخصائص مثل (البلد – النوع – السن – الوظيفة – الاهتمامات – حتى اللغة والدين والاهتمامات السياسية) ما يمكن تلك الخوارزميات ان تدرك ما قد تحتاج وفقاً لسلوك وبصمتك الرقمية او بصمه الاخرين الذين يتشبهوك في معظم الخصائص مما يمكنها ان تقود لك الاختيارات او الحاجات التي تبحث عنها سواء بحثت عنها او ان هذا الامر لم يحدث بعد لكنها لديخا القناعات التحليليه بانك ستفعل.
وهكذا، عندما تجلس مع صديقك وتتحدث عن السفر، تكون الخوارزميات قد وصلت بالفعل إلى الاستنتاج نفسه قبل حديثك أو دون سماعه او مع سماعه النتيجة لن تفرق كثيراً.
إذن… هل الميكروفون مفتوح فعلاً؟
رغم أن هذه الفكرة منتشرة جداً وتكاد تكون حقيقة مخفية او غير معلنه، حيث إن الشركات الكبرى مثل جوجل وفيسبوك وغيرهم عندما يوجه لها مثل هذا التساؤول تنفي رسمياً أنّها تستخدم الميكروفون للتنصت على المستخدمين. وأن السبب يمكن في ان الأمر غير قانوني ومكلف جداً لتسجيل كافة الاصوات والتسجيلات لكافة المستخدمين فهو من وجة نظرهم امر غير عملي من ناحية حجم البيانات.
لكن… وهنا يأتي الجزء الذي قد يغيب عن معظم الناس وهو عند تحميل التطبيقات المجانية فان الكثير من تلك التطبيقات تطلب إذن الميكروفون دون سبب مفهوم وبمجرد أن يضغط المستخدم على السماح بذلك، يصبح من حق التطبيق الوصول للصوت المحيط في دائرة المستخدم وكان المستخدم قد وقع ورقة على بياض لهذا التطبيق والشركة المالكة لسماع اصواته ومحادثاته واصبح بذلك شكل قانوني.
والتفسير من بعض الشركات على طلب هذا الاذن كانت الاجابة ان الغرض من ذلك ليس لكي يسمع أسرار المستخدم بالضرورة، ولكن لكي يجد إشارات صوتية تخبره عن البيئة التي يكون فيها المستخدم مثل هل أنت في مول؟ هل هناك إعلان تلفزيوني في الخلفية؟ هل هناك أصوات أطفال؟ هل هناك موسيقى معينة داخل مطعم؟ لكي يقوم بتحليلها ومعرفة دقيقة لشخصيتك.
هذه المعلومات تساعد الشركات المعلِنة على معرفة اللحظة المناسبة لعرض إعلانها، فالأمر أشبه بأن التطبيق لا يستمع لك… لكنه يستمع للمكان حولك. وارى ان الامر سيان فهو يسمعك في كل الاحوال ويستمع من حولك ايضاً
لماذا يشعر الناس فجأة بالخوف؟
لأن الإنسان بطبيعته يخاف من الأشياء التي لا يفهمها. وما يحدث اليوم ليس مجرد تطور تكنولوجي عادي… بل تحول جذري في طريقة فهم الشركات لسلوكك وتحليل بياناتك وصولاً لبناء شخصية رقمية لديهم تمثل شخصك الحقيقي.
في الماضي، كانت الإعلانات تحاول جذبك عشوائياً، اما اليوم، الإعلان يعرفك جيداً… يعرف ماذا تحب، ماذا تكره، متى تقبل، متى ترفض، ومتى تكون في حالة تسمح لك بالشراء. من خلال تحليل كل بياناتك وسلوكك الشخصي حتى وان كان شئ بسيط، وأخطر ما في الأمر أن أغلب هذا يحدث خلف الستار، دون أن يخبرك أحد ما الذي يحدث أو لماذا تظهر لك هذه الإعلانات بالضبط.
وهذا ما يجعل الناس تقول أكيد الموبايل بيسمعني اكيد حد بيتصنت على وهو ما يشعرك بالخوف والقلق على الرغم من ان ما يحدث في الخلفية هو تحليل دائم ومستمر لسلوكك وبياناتك بشكل مستمر من خلال منظومة كاملة تحلل حياتك بدقة ومعك حق فهذا الامر يبدو مرعباً
الإنترنت يُعيد تشكيل سلوك الإنسان دون أن يشعر
لا ابالغ ان قولت ان الحقيقة الصادمة ان الانظمة والتطبيقات الالكترونية الذكية ليست فقط انها تقوم بتوقع ما تفكر فيه… لكنها قادرة على تغيير ما تفكر فيه ايضاً، من خلال بناء سلوك ورسم الطريق الذي تريدك ان تمشي فيه وساعطيك مثلاً على ذلك.
فعندما تظهر لك إعلاناً بشكل متكرر لمدة أسبوع، يبدأ عقلك دون وعي باعتبار هذا المنتج شيئاً مألوفاً.
وهنا تدخل في دائرة يسميها علماء النفس تأثير التعرّض المتكرر، وقد يحدث هذا في السياسة، والاقتصاد، والعادات الاجتماعية، وكل ما له علاقة بتشكيل الرأي العام، فليس من المبالغة القول إن التكنولوجيا اليوم قادرة على التأثير على حياة الناس بطرق لم تحدث من قبل في التاريخ البشري.
هل يمكن للإنسان حماية نفسه؟
الحماية موجودة، لكنها تتطلب وعياً، لأن الشركات تعتمد على شيء واحد أن المستخدم لا يقرأ اي من الاشتراطات التي تطلب منه الموافقه عندما يريد استخدام التطبيق، معظم من يمنح التطبيقات أذونات الميكروفون واللوكيشن لا يعرف لماذا يفعل ذلك، معظم من يدخل المواقع لا يعرف كمية البيانات التي قد تم جمعها عنه، ومعظم من يستخدم السوشيال ميديا لا يفكر في أن كل ضغطة تصبح جزءاً من ملفه السلوكي لدى تلك المنصات، لكن بمجرد أن تفهم ما يحدث، تستطيع أن تقلل من حجم التتبع بدرجة كبيرة فيمكنك حينها أغلق أذونات الميكروفون غير الضرورية، واستخدم متصفحات آمنة، وحذف سجلات البحث كل فترة ومراقبة التطبيقات التي تطلب بيانات غير مبررة.
لكن الأهم من كل ذلك أن تتعامل مع الإنترنت باعتباره مساحة عامة، مهما بدت خاصة، لأن ما تفعله على هاتفك ليس خاصاً كما تظن… بل هو معلومة تنتظر من يلتقطها ليقوم بتحليلها واستغلالها على الفور.
في النهاية اريد ان اوؤكد ان الإنترنت يعرفك لدرجة أنه لا يحتاج أن يسمعك سواء كان كان الميكروفون مفتوح او مغلق. فاصبحت التطبيقات الآن من الذكاء انها ليست معنية بكلامك… بل بسلوكك.
وما يبدو تجسس او تصنت هو في الحقيقة نتيجة تحليل آلاف الإشارات التي نتركها دون أن نشعر، نحن نعيش اليوم في عالم لم يعد الإنسان فيه هو محور المعرفة… بل بياناته وسلوكه ورودود افعاله اصبحت هي المهيمن والمسيطر لبناء الطريق ورسم الخريطة في عالم اصبحت فيه البيانات أغلى من الذهب، لا شيء يضيع، بل كل شيء يتم تحويله إلى معلومة… ثم إلى إعلان او شئ اخر فلا تكن انت الركن الاضعف في تلك المعادلة لذا لابد ان تكون واعي بما يكفي حتى تسيطر وتقود حياتك الرقمية من حولك.








