مقالات

محمد سليم سالمان يكتب: مشروع وعاء الطاقة (Power Pool) عام 2003 نواة مبكرة لتحرير سوق الكهرباء في مصر

محمد سليم سالمان يكتب: مشروع وعاء الطاقة (Power Pool) عام 2003
نواة مبكرة لتحرير سوق الكهرباء في مصر

 

في عام 2003، قدّمتُ عرضًا في مؤتمر دولي بالقاهرة حول مشروع Power Pool الذي أطلقته الشركة القابضة لكهرباء مصر بالتعاون مع المعونة الامريكية كمبادرة طموحة لتحديث أساليب الإدارة وتحسين أداء محطات التوليد. وكان الهدف من هذا المشروع هو الانتقال من مرحلة التشغيل التقليدي التي تركز فقط على إنتاج الكهرباء إلى مرحلة أكثر نضجًا تعتمد على الكفاءة، والقياس، والإدارة القائمة على الأداء والنتائج.

وقد مثل هذا المشروع في ذلك الوقت النواة الحقيقية لتحرير سوق الطاقة في مصر، إذ كان يمكن أن يشكل الأساس لنظام تنافسي حديث يعتمد على الأداء والجودة لو استمرت الإرادة والإدارة المؤسسية في تطويره ودعمه.

من التشغيل التقليدي إلى الإدارة القائمة على الأداء

قبل إطلاق مشروع وعاء الطاقة Power Pool، كانت إدارة محطات الكهرباء تعتمد بشكل كبير على مركزية القرار والبيروقراطية، مع تركيز رئيسي على التوليد فقط دون الاهتمام الكافي بعنصري الكفاءة الاقتصادية ورضا العملاء.

جاء المشروع ليغير هذه الفلسفة من خلال إدخال نظام متكامل لقياس الأداء يعتمد على عدادات ذكية وأجهزة جمع بيانات وخوادم مركزية تتيح للإدارة متابعة مؤشرات التشغيل بشكل لحظي.

وقد أعاد المشروع صياغة معادلة العمل في قطاع الكهرباء وفق المفهوم الاقتصادي البسيط:
R – C = I (Income = Revenues – Cost)

• R: الإيرادات = الطاقة المنتجة بالميجا وات ساعة × سعر الوحدة (جنيه/ م و س)
• C: التكاليف (الثابتة + المتغيرة وأهمها تكلفة الوقود)
• I: الدخل أو الربح قبل اى خصومات

وبذلك أصبح عنصر تكلفة الوقود هو المحدد الرئيسي في الفاتورة التشغيلية، مما حفّز المحطات على تحسين كفاءتها وتقليل استهلاك الوقود للوصول إلى أعلى عائد ممكن.

نتائج ملموسة وتحسن في الأداء:

شهدت العديد من المحطات تحسنًا ملحوظًا بعد تطبيق النظام الجديد. فعلى سبيل المثال:
• في محطة العريش البخارية انخفض معدل استهلاك الوقود بالجرام / كيلووات ساعة بصورة ملحوظة.
• في شركة شرق الدلتا لانتاج الكهرباء EDEPC تحسن معدل استهلاك الخدمات المساعدة (Aux/Gen) من 5.02% في 2001/2002 إلى 4.62% في 2002/2003، مما وفر للشركة أكثر من 7.1 مليون جنيه سنويًا.
• أصبحت EDEPC الأفضل من حيث تكلفة الوقود لكل ميجاوات ساعة بواقع 35.24 جنيه/ م و س مقارنة بمتوسط 36.7 جنيه / م و س لباقي الشركات.
هذه النتائج كانت دليلًا عمليًا على أن الإدارة القائمة على البيانات والقياس تؤدي مباشرة إلى تحسين الأداء والكفاءة. وقد اختُزلت هذه الفلسفة في مقولة أصبحت شعارًا إداريًا آنذاك:

“القياس هو أعيننا لمراقبة الأداء”
نحو سوق كهرباء حديث

كان مشروع Power Pool أكثر من مجرد نظام قياس؛ فقد وضع الأساس لقيام سوق كهرباء تنافسي حديث يشبه نموذج PJM Interconnection القائم في ولاية بنسلفانيا (Pennsylvania) بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو سوق رائد يضم أكثر من 13 ولاية أمريكية ويخدم أكثر من 65 مليون مستهلك.

ويُعتبر PJM مثالًا عالميًا على كيفية إدارة سوق الكهرباء بطريقة قائمة على المنافسة والشفافية من خلال سوق يومي وسوق فوري (Day-Ahead & Real-Time Markets) ، بالإضافة إلى أسواق خدمات مساندة (Ancillary Services)، مع فصل واضح بين أدوار التشغيل والتنظيم والتجارة.

ويعتمد هذا النموذج على تحديد الأسعار وفقًا للتكلفة الحدّية الحقيقية (Marginal Cost Pricing) وتحفيز المنتجين على تحسين الكفاءة، وهو ما كان يمكن لمصر أن تستلهمه مبكرًا لو تم استكمال مشروع Power Pool وتطويره مما يقلل من التدخلات الحكومية المباشرة في تسعير الكهرباء وتشجيع دخول المنتجين المستقلين (IPP) وتعزيز الاستثمار في القطاع وربط أسعار الطاقة بالأداء الفعلي للمحطات وجودة الخدمة.

فرصة تاريخية لتحرير سوق الكهرباء

لقد كان مشروع Power Pool في عام 2003 خطوة سبّاقة وناضجة نحو تحرير سوق الكهرباء في مصر، إذ وضع الأدوات والمنهجيات التي تتيح الانتقال من سوق احتكاري تديره الدولة بالكامل إلى سوق مفتوح يقوم على الأداء والمنافسة.

وربما لو استمرت الإرادة المؤسسية في البناء على هذه التجربة وتطويرها بشكل متواصل، لكانت مصر قد حققت في وقت مبكر ما تسعى إليه اليوم من تحرير السوق وجذب الاستثمارات الخاصة ورفع كفاءة المنظومة.

الخاتمة

إن تجربة Power Pool كانت رسالة واضحة بأن الإدارة الحديثة القائمة على القياس، والتحليل، والشفافية قادرة على إحداث تحول جذري في قطاع الطاقة. لقد أثبتت التجربة أن الوعي الإداري يمكن أن يكون المحرك الأول للتغيير، وأن الأداء الجيد يجب أن يُكافأ بينما تتحمل المحطات نتائج ضعف الأداء.

واليوم، ومع الاتجاه نحو تحرير السوق وفتح المجال أمام القطاع الخاص، تبقى تجربة عام 2003 درسًا مهمًا بأن التحول الحقيقي يبدأ من الإدارة الواعية والقيادة المؤسسية طويلة المدى.

وفى الواقع عندما نجتر ذكريات هذا المشروع ونتأمل تفاصيله وبياناته وكم كنا متحمسين لتنفيذه وبعد مرور أكثر من عقدين، نشعر بغصّة حقيقية لعدم استكمال العمل في حينه وتحويل تلك الخطوة الرائدة إلى منظومة كاملة تحقق النتائج المرجوة، خاصة وأن جميع المقومات التقنية والمؤسسية كانت متاحة، وكان بالإمكان أن يشهد قطاع الكهرباء المصري انطلاقة مبكرة نحو سوق أكثر كفاءة وتنافسية وعدالة.

تعريف بالكاتب:
– د. م. محمد سليم سالمان
– رئيس قطاع المراقبة المركزية للأداء سابقا بكهرباء مصر
– عضو المجلس العربى للطاقة المستدامة

#مجلة_نهر_الأمل

اظهر المزيد
صورة nahr1 Alamal

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى