مقالات

الوزان يكتب .. دور الإعلام في حماية التراث

الوزان يكتب .. دور الإعلام في حماية التراث

بقلم: د. عبدالكريم عبد الجليل الوزان

يعد الإعلام باعتباره التعبير الموضوعي والعقلي لروح الجماهير، وميولها واتجاهاتها وطباعها، المحرك الرئيس والمفعل الكبير للعلوم والوقائع والسياسات وكل ما يتعلق بـ مناحي الحياة، وخاصة بعد أن شهد العالم ثورة تكنولوجية هائلة في عالم الإتصالات بالتحول الرقمي والرقمنة الاعلامية.

ومن ضمن اهتمامات ومسؤوليات الإعلام ، ما يتعلق بالتراث الذي له معنى شامل لكل ما هو موروث من الثقافات وقيم وتقاليد، ومن تراث معماري يمثل تأريخ وثقافة المجتمع، ويعتبر الصلة المادية والمعنوية التي تربط المعاصرين بأسلافهم، وتجسيداً لقيم ثقافية وحضارية، ويعكس البنية الإقتصادية والإجتماعية التي عاشها الأجداد. كما يعرف بأنه مجموعة المباني والمواقع والمراكز الحضارية والمواقع الأثرية والتراث الصناعي والمناظر الطبيعية الثقافية والطرق التراثية (1).

وقالوا عن التراث: “على شعبنا أن لا ينسى ماضيه وأسلافه، كيف عاشوا وعلى ماذا اعتمدوا في حياتهم، وكلما أحس الناس بماضيهم أكثر، وعرفوا تراثهم، أصبحوا أكثر اهتماماً ببلادهم وأكثر استعداداً للدفاع عنها”.

وهناك أنواع للتراث: مثل التراث العالمي والتراث العربي والتراث الإسلامي والتراث الديني والتراث العلمي والتراث الحضاري والتراث الإنساني والتراث الثقافي والتراث اللغوي وتراث الشعوب الأصيلة والتراث الطبيعي والتراث المادي، والأخير كالذي يتمثل بالمواقع والمباني التراثية، أما غير المادي فهو كالأفكار والموسيقى والطقوس والمناظر الطبيعية وما شابه ذلك.

أما التراث الشعبي فيعد ثروة كبيرة من الآداب والقيم والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية والثقافة المادية والفنون التشكيلية والموسيقية، وهو علم يدرس الآن في الكثير من الجامعات والمعاهد الأجنبية والعربية، لذا فإن الإهتمام به من الأولويات الملحة. وكذلك هو ما ينتقل من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ونحوها من جيل إلى جيل.

وبعد هذا الإستعراض الموجز عن التراث، يتجلى لنا دور الإعلام وأهميته الوطنية في الحفاظ على هذا الكنز الإجتماعي، وتمريره للشعوب عبر وسائل الإعلام المختلفة، وتوظيفها لصالح المجتمعات، بما يعزز من قيمها ويرفع من معنوياتها ويحافظ على تماسكها من الداخل والخارج بوجه البروباغاندا المؤدلجة التي تستهدف العقول والأفكار وخاصة للشباب.

كما أن للإعلام دور في مخاطبة أفراد المجتمع أنفسهم للتوعية بأهمية التراث. وعلى الدولة أن تراقب مؤسساتها الإعلامية العامة والخاصة لضمان تحقيق هذه الرسالة بالشكل الأمثل، لكن بمنأى عن الرقابة البوليسية التي تؤدي إلى التشويش الإعلامي.

ويُعد الإعلام بكافة أشكاله قوة إجتماعية تلعب دوراً فعالاً في الحفاظ على التراث وأماكن الآثار من خلال إيجاد قنوات لنشر التراث وترويجه وتقريبه إلى آذان الجيل الجديد، إضافة إلى أن وسائل الإتصال الجماهيرية ليست مجرد قنوات نقل صماء وإنما أدوات فاعلة ساعدت كثيراً على “عصرنة” الإبداع الشعبي وعرضه في حلة جديدة تتلاءم مع العصر الجديد، ناهيك عن دور الوسائط الجماهيرية في تزويد قاعدة عريضة من الجمهور بالأخبار والروايات التي يتداولها الناس ليتم التعديل عليها وتصبح مادة شعبية تتداولها الأجيال القادمة، كما أن الوسائط الجماهيرية تعمل على إيجاد تواصل غير مباشر بين النص المذاع والجمهور المتلقي يتم من خلال وسائل بث إلكترونية وأدوات تقنية حديثة تنقل المادة للجمهور، حيث أثرت وسائل الإعلام في حياتنا المعاصرة بصياغة نمط حياة الإنسان في المجتمع المعاصر، وظهر هذا التأثير واضحاً في طبيعة صياغة للمأثورات الشعبية (2).

وتمثل الرقمنة الإعلامية إضافة معاصرة لحماية التراث، فلابد من وضع آلية ومنهج لرقمنة التراث، فاستخدام الوسائل الإعلامية الحديثة في كيفية العرض والنقل ودقة التوثيق وسرعة الكشف وعرض الأفلام الوثائقية وإصدار الملاحق (والبروشورات) أمر ضروري، يحتم على القائم بالإتصال مهما كانت صفته أن يعول عليها لتحقيق أهدافه بالشكل الأمثل.

وأصبح واضحاً أن التكنولوجيا والرقمنة ومنها الرقمنة الإعلامية جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان واستخداماته اليومية والعلمية، وجزء أصيل من علم التراث الحضاري الملموس وغير الملموس، ومع مرور الزمن نلاحظ المسؤولية التي نواجهها للحفاظ على التراث من الزوال لعدة أسباب تشمل الكوارث البيئية، والحروب والسياسة والعولمة والحاجات الإنسانية والإتجاهات الحالية المتبعة، وعدم الوعي بأهمية التراث، ولذلك فعلى العلماء مسؤولية كبيرة في استخدامات وسائل التكنولوجيا المختلفة والرقمنة في حفظ وتوثيق وصيانة التراث الحضاري للمواقع الأثرية والمباني التراثية، وكذلك حماية وحفظ التراث الحضاري غير الملموس، مثل العادات والتقاليد والقيم واللغة، وتقديم المعلومات بطرق ووسائل مختلفة تخدم كافة أعمار المجتمع، وكذلك الثقافات المختلفة والخلفيات المجتمعية المتنوعة(3).

والأمثلة كثيرة على آليات الرقمنة المتعلقة بحفظ التراث، من ذلك الحوسبة السحابية والمكتبات الرقمية والتحويل الرقمي للوثائق الأرشيفية “وقاعات عرض المعالم الأثرية وقاعات الفولكلور وعرض الملابس، وقاعات لإسهام علماء الفلك وشاشات عرض تأريخ الملوك لتظهر تأريخهم وإسهاماتهم وتوثيق كافة البيانات للمعالم الأثرية ونشر مطبوعات للتعريف بها من خلال المنشورات والمواقع الألكترونية”، وتوظيف التكنولوجيا في المتاحف وإظهار المحتويات بشكل مجسم واستخدام الموسيقى والأصوات.

لكن للأسف مازال الإهتمام الجدي بهذا الموضوع غير فعال على الرغم من اعتماد اليونسكو ميثاقاً عام 2003 يرمي للحفاظ على التراث الرقمي، فقد “أشارت دراسة إستقصائية أجريت في عام 2009 إلى أن القليل من الحكومات في البلدان المتقدمة والبلدان النامية على حد سواء أقدمت على اعتماد استراتيجيات لصون تراثها الرقمي وضمان الإنتفاع به أو على صياغة هذا النوع من الإستراتيجيات “(4).

وهناك صلة وثيقة بين الإعلام والسياحة والفن باعتبار أن كل منهم بحاجة إلى الآخر، فتسليط الضوء على الشواهد التأريخية كالآثار والمباني والمواقع التراثية والمتاحف والأسواق ذات الصلة يحقق أهدافاً كثيرة منها: إعلاء قيم ومكانة الشعوب والدول، وتوفير موارد مالية وأرباح بالعملة الأجنبية وهذا يضفي مسؤولية إضافية على الإعلام. أما الفن فيمكن لوسائل عديدة من خلاله ترسيخ حب الوطن، ومن ذلك إستخدام الدراما المسرحية لدى المتلقين وبالذات الأطفال عن طريق التراث الشعبي، ويتولى الإعلام عرض وبث ذلك. لكن أحيانا قد تقوم وسائل الإعلام بلا قصد بإعطاء صورة سلبية عن الجانب السياحي، لأسباب مختلفة منها القصور الثقافي أو المهني أو انعدام الحيادية أو عدم اتزان في السلوك الإعلامي.

إن المسؤولية الخطيرة للإعلام لا تتوقف عند حد معين في الحفاظ على التراث، بل تهدف إلى الحفاظ على الهوية الأساسية للشعوب والأمم من خلال التوعية والتذكير والتوثيق والربط بين الماضي والحاضر، وقيل “إذا أردت أن تظلم أمة فافصلها عن ماضيها”. وليس خافياً على الكثير أن من أسباب “عظمة” بريطانيا هو التوثيق المعرفي والفهم للأحداث وما يواجهها.

كما يتوجب على الإعلام أن يضع حدوداً فاصلة بين العادات والتقاليد السيئة وفصلها عن الإيجابية منها. وأن يستخدم أسلوب القوى الناعمة داخل وخارج البلاد لتحقيق أهدافه بشكل سلس، وكل هذا يتم بالإعتماد على عناصر في غاية الأهمية منها: نوعية ورصانة الخطاب الإعلامي، وثقافة وحيادية ومهنية القائم بالإتصال، مالكاً كان للوسيلة أو مصمماً ومنفذاً، الذي يؤمن بأحقية وعدالة وعمق تأريخ بلاده، وفهم الجانب النفسي للمتلقي وطبيعة الظروف المحيطة به والمؤثرة عليه، وحداثة الوسائل المستخدمة.

من جانب آخر فإن التواصل المستمر مع الجهات الإعلامية الأخرى في مختلف الدول، وخاصة العربية منها، من خلال المؤتمرات والندوات والدورات، كل ذلك يعزز من دور الإعلامي في إنجاح رسالته. وعلينا أن لا نغفل أهمية البحوث الإعلامية العلمية في هذا الشأن، نظراً للتطورات السريعة في علوم الإعلام والإتصال، وبهذا وذاك يكون الإعلام بمثابة الحارس اليقظ والوصي الأمين والجندي المقدام في الدفاع عن البلاد من خلال الدفاع عن تاريخها وتراثها.
1- ماهو التراث؟ معلومات عن أهمية التراث لحفظ التأريخ وتراكم الخبرات، https://www.edarabia.com  ،2022
2- تمارا حداد، وطن، دور الإعلام والتواصل الإجتماعي في الحفاظ على التراث الفلسطيني، 17-12-2021.
3- شريف الطحاوي، إنطلاق المؤتمر الدولي الثالث لكلية الآثار بالفيوم بعنوان “التكنولوجيا والرقمنة في حفظ وتوثيق وصيانة الآثار”، الأسبوع، 23 مايو 2022.
4- الرقمنة وحماية التراث الرقمي، https://hrdoegypt.org/wp-content/uploads/2016/03 ،2016

أ.د. عبدالكريم عبد الجليل الوزان
نائب رئيس جامعة سليمان الدولية
عميد كلية الإعلام في الجامعة الإسلامية الأمريكية بمنيسوتا

#مجلة_نهر_الأمل

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى